المقدمة
أهم بحث ينتهي بنا الى معرفة «لصحيح من تاريخ الاسلام» ولو موجزاً هو معرفة الصحابة. فمن جهة كان أصحاب رسول الله هم الذين آزروه ونصروه وأيّدوه يوم كان الاسلام غريباً، واستطاعوا بتأييد الله وحمايته ان يَدْعوا رسول الله الى المدينة وينصروه كنصرتهم لأحد أعضاء اسرتهم بل أفضل من ذلك. ومن هؤلاء الصحابة من جاءوا بالرسول وبني هاشم ـ الحماة الوحيدين لرسول الله في شعب أبي طالب ـ الى المدينة، وأنقذوا الاسلام من الغربة التي كان يواجهها، ونصروا رسول الله في الحرب وفي السِلم، وكان لهم النصيب الأوفر ـ بعد تأييد الله ونصره ـ في توطيد قوّة الاسلام وقدرة رسول الله يوماً بعد آخر.
وعلى صعيد آخر وقف هؤلاء الصحابة ـ بعد رسول الله ـ رغم ما ظهر بينهم من اختلاف ونزاع، وقفة رجل واحد ضد العدو الأجنبي، وذادوا عن حمى الاسلام بجدارة، ومضوا قدماً في الفتوحات ووسعوا رقعة بلاد الاسلام، رغم ان الاختلافات الداخلية التي نشبت بينهم حول قيادة الأمة كانت في ما بعد سبباً لاندلاع حروب أهلية نخرت جسم الاسلام، واضعفت المسلمين، ونجم عنها بروز مزيد من الاختلافات والنـزاعات، وأدت الى ظهور المزيد من المذاهب والفرق، حتى بلغ عدد الفرق التي ظهرت بين المسلمين ثلاثاً وسبعين فرقة وهي ـ باستثناء فرقة واحدة ـ كلها ضالة ومصيرها الى النار( ) بشهادة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الذي قال:
ستفترق امّتي من بعدي ثلاث وسبعين فرقة؛ واحدة ناجية، واثنان وسبعون في النار.
ومن الطبيعي ان البحث لمعرفة من هي الفرقة الناجية متعذّر من غير البحث حول الصحابة الذين كانوا بمثابة المؤسسين أو الرؤساء الاوائل لهذه الفرق. ورؤساء الفرق ـ كما صرّح القرآن الكريم ـ لا يفترقون يوم القيامة عن فرقهم. وكِلا الامام والمأموم يدخلان سوية، أما الى الجنة وأما الى النار. قال تعالى في كتابه الكريم:
﴿يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَأُونَ كِتَابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً﴾( ).
﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً﴾( ).
وقال رسول الله( ) (صلى الله عليه وسلم) مشيراً الى الصحابة من قريش: يُهلك الناسَ هذا الحي من قريش.
يقول البعض بأنّه لا ينبغي البحث في ما يخص الصحابة؛ لأن الصحابة كلهم عدول وعلى الطريق القويم، رغم ما وقع بينهم من اختلاف ونزاع، وما حصل بينهم من اراقة لدماء بعضهم الآخر، وما نجم عن ذلك من ظهور الفرق الضالّة.
ان هذا القول، يتعارض مع قول الله تعالى في كتابه الكريم:
﴿وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ﴾( ).
﴿وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾( ).
ويتعارض مع الآيات التي نزلت في شأن المنافقين، والآيات التي نزلت في اقامة الحد على بعض الصحابة، إضافة الى انه يتنافى ويتناقض مع قول رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الذي قال فيه ان ثلّة من أصحابي يرتدون من بعدي ويبتدعون البدع فيدخلون النار ولا تخرجهم شفاعتي منها. بل يتعذّر عقلاً أن تكون الغالبية العظمى من الفرق الاسلامية ضالة ومن اهل النار، ويكون رؤساؤها الاوائل الذين بذروا بذور الاختلاف بين ابناء الأمة، وكانوا سبباً في ظهور هذه الفرق، كلهم من أهل الجنّة من غير استثناء.
وبعبارة اخرى لا يمكن ان تكون الفرق المتناقضة والمتعارضة في ما بينها كلها على الطريق المستقيم، وان يكون كل رؤساء هذه الفرق، الذين سلكوا هذه المسالك من أجل الاستيلاء على السلطة، من اهل الجنّة، وان يكون اتباعهم الذين اقتفوا خُطاهم عن عمى، من أهل النار. ان هذا لا يمكن ابداً، بل كما قال الله في كتابه العزيز ان الامام والمأموم اما كلاهما في الجنة أو كلاهما في النار، لا بل ان الإمام يسبق المأموم لأنهما اذا دخلا الجنّة فالامام أسبق ومقدّم على المأموم لأنّه كان هادياً لأتباعه إلى طريق الجنّة. وأما اذا كان مصيره الى النار، فان قائد الضلال أول من يدخل النار؛ لأنه هو الذي قاد اتباعه الى دخول النار.
ولكن من هي الفرقة الناجية التي تدخل الجنّة؟ هل هم الذين ساروا خلف الاكثرية، وهي تلك الاكثرية التي تخلّت عن رسول الله في ساعة الخطر مثلما حصل في معركتي أحد وحنين وغيرهما، حين فر القوم وتركوا الرسول وحده، او حين تركوا الرسول قائماً عندما سمعوا صوت اللهو والتجارة.
وهل الفرقة الناجية هي تلك التي اتّبعت السلاطين حيثما ساروا، واتبعوا حتى يزيد بن معاوية، شارب الخمر الزاني بالمحارم الذي استباح مدينة رسول الله ثلاثة أيام لجيشه ليفعل ما يشاء في اعراض واموال أهل المدينة، حيث أنجبت نساء الصحابة والتابعين بعد تسعة أشهر من تلك الواقعة ألف ولد زنا؟ وحتى ان يزيد بن معاوية انكر رسالة رسول الله. فهل اتباع امثال هولاء السلاطين هم الفرقة الناجية (لانهم اكثرية)؟ ومَن قُتِلوا على طريق النهي عن منكر يزيد واتباعه من أهل النار (لانهم اقلية)؟
اذاً من وما الذي يجب ان تتبعه الامة بعد رسول الله؟ يقول البعض ان الامة يجب ان تتبع السُنّة. وهذا أمر لا يختلف فيه اثنان، اذ ينبغي ان تتبع الامّة سنة نبيّها. ولكن اية سُنّة؟ هل هي السنّة التي ضاعت اليوم في خضم الاحاديث المتعارضة والمتناقضة؟ وبعض هذه الاحاديث ينص على ان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: اتبعوا من بعدي السلطان، بينما تعارض هذا الحديث أحاديث اخرى تقول عليهم باتباع الأكثرية، حتى وان ثارت هذه الاكثرية على السطان وقتلته، أو أسلمت له قيادها. وتقول احاديث اخرى: تمسّكوا بعدي بالقرآن والعترة (والأئمة من أهل بيتي). وكل واحدة من هذه الفرق تتمسك بما لديها من كتب وتقر بصحّة ما ورد فيها. هذه الكتب التي تضم بين دفّتيها هذه الاحاديث المتعارضة والمتناقضة واذا كانت كل فرقة لا تقبل إلا كتابها، فمن الطبيعي ان هذه الأمة لن تسير ابداً باتجاه الوحدة، ولا تهتدي الى الطريق المستقيم الذي هو طريق واحد لا يتعدد، إلاّ اذا بحثت الامور “على أساس القرآن والاحاديث المتواترة التي تُجمع عليها الامة بكل فِرَقها”، ونقّبت جذور كل معتقد وافتراض مسبق، وأعادت النظر في القضايا التالية:
1ـ هل كان الصحابة كلهم عدول بغير استثناء؟
2ـ هل كل الاحاديث المتعارضة والمتناقضة التي نقلها الصحابة صحيحة ومطابقة للحق؟
3ـ هل كان الرسول قد وضع الحلول الكفيلة بازالة الاختلاف من بعده، وأوصى الصحابة بسبيل النجاة؟
4ـ ان كان قد بيّن لهم سبيل النجاة، فما هو ذلك السبيل؟
الباب الاول
نظرية «عدالة جميع الصحابة بلا استثناء»
مقدمة حول منهج البحث والافتراضات المسبقة
قبل الدخول في صلب البحث لابد من تبيان مسألتين:
أـ اتباع منهج مقبول لدى جميع المسلمين لكي لا يكون فيه ثمة شك او ترديد.
ب ـ ثم السير على أساس ذلك المنهج الصحيح، للبحث حول صحّة الافتراضات المسبقة.
الافتراضات المسبقة:
الافتراض الاول: حول عدالة جميع الصحابة
الافتراض الثاني: حول صحّة الاحاديث والكتب الحديثية
الكثير من المسلمين لا يناقشون هذه القضايا؛ وانما يقرّون عدالة جميع الصحابة وصحّة بعض الكتب تعبّداً، ويتّخذون منها افتراضات مسبقة لبحثهم واستدلالاتهم، في حين ان البحث والاستدلال مفيدان حتى في القضايا الثابتة وحتى في ما يتعلّق باصول الدين.
أـ مناهج البحث:
هناك منهجان للبحث:
1ـ المنهج الجدلي.
2ـ المنهج الاستدلالي.
ـ يقوم المنهج الجدلي على أساس الاستدلال بالقضايا المسلّم بها عند الطرف المقابل لاجل اسكاته، حتى وان كانت هذه القضايا المسلّم بها غير مقبولة عند من يستند اليها ويستدل بها.
ـ وأما المنهج الاستدلالي فهو يقوم على الاستدلال بامور يقينية مقبولة عند الجميع.
ـ منهجنا استدلالي وليس جدلياً
نروم في كتابنا هذا اتباع المنهج الاستدلالي. ومن الواضح ان المنهج الاستدلالي يستدعي ان تكون مقدّماته من الامور اليقينيّة؛ وهي عبارة عن البديهيات وكذا المتواترات كما هو الحال بالنسبة الى القرآن الكريم عند المسلمين.
ايضاح: شِكل المنهج الجدلي هو اننا نستدل بكتب الآخرين لإثبات صحّة كلامنا. وهذا المنهج الجدلي منهج يقوم على النقض وليس اسلوباً للاقناع، ويمكن الطعن في صوابه، وهو لو ان احداً اراد الاستدلال لاثبات شيء للطرف المقابل، يقول له: اذا كنت تقر بصحّة مالدينا من الروايات، فلدينا روايات اكثر صراحة ودلالة على ما نقول. في حين ان المنهج الاستدلالي مقبول لدى الجميع، ويقوم على الاستدلال بالبديهيات والمتواترات.
ب ـ الافتراضات المسبقة
اول الافتراضات المسبقة، عدالة جميع الصحابة بلا استثناء.
ايضاح: الرواة على قسمين:
1ـ الراوي الصحابي.
2ـ الراوي غير الصحابي، أي التابعي.
الصحابة هم المسلمون الذين شاهدوا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ونقلوا عنه روايات. ويذهب معظم المسلمين وهم “اتباع اصحاب السلطة” الى ان جميع الصحابة، عدول بلا استثناء. ولهذا السبب لا يوجد عندهم كتاب يبحث في احوال الصحابة ويقسّمهم الى عادل وفاسق ومنافق. وهم ـ في كتبهم الرجالية ـ عندما يصل الدور الى الصحابة لا يتطرّقون أبداً الى بحث عدالة الراوي الصحابي؛ وذلك لأنهم يقولون بأن الصحابة كلهم عدول( ) على الاطلاق، ولا يحق لنا الطعن في عدالة صحابي. وهذا الافتراض المسبق هو ما تقوم عليه كتب أتْباع اصحاب السلطة، وهو ان كل الصحابة عدول من غير استثناء. بينما يقول اتباع عترة رسول الله “الذين يعتبرون أنفسهم اتباع اهل البيت” بتقسيم الصحابة الى: صحابي عادل، وصحابي غير عادل.
استدلال انصار نظرية عدالة جميع الصحابة على ان الصحابة
كلهم عدول من غير استثناء
الاستدلال العقلى:
ومن الادلة التي يعتمدونها في هذا المجال هو اذا كان لدينا شك في عدالة صحابي، واردنا اثبات عدالته، فينبغي الرجوع الى شهادة صحابي آخر على عدالته. وهنا يعود بنا البحث الى هذا الشاهد، وكيف نعلم عدالته؟ وهكذا نقع في الدور (وكلّ ما يستلزم الدور محال). ولهذا السبب لا نستطيع اثبات عدالة أي من الصحابة. وبالنتيجة تنقطع علاقتنا بالرسول.
ورد في كتاب الاصابة لابن حجر، وفي كتاب تهذيب التهذيب وهما من كتب الرجال عند اتباع اصحاب السلطة ما يلي:
الذين ينتقصون احداً من اصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يريدون ان يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسُنّة، والجرح بهم أولى وهم زنادقة( ).
هذا هو الدليل العقلي الذي يقولون به لاثبات عدالة جميع الصحابة. ولابد اولاً من مناقشة هذا الدليل العقلي. ثم ننتقل بعده الى ذكر الادلة النقلية؛ أي الاستدلال بالآيات والروايات.
بحث حول هذا الاستدلال:
أولاً: من الواضح كوضوح الشمس في رابعة النهار بأن الشك في عدالة جميع الصحابة، واثارة التساؤلات والشكوك حولهم، سيؤدي بالنتيجة الى انقطاعنا عن سنّة رسول الله صلوات الله عليه. ولكن أي فريق وأي مسلم يشك في عدالة جميع الصحابة بشكل عام وبالمجموع الكلي؟
فبعض الصحابة عدالتهم ثابتة بالمتواتر من اقوال رسول الله (صلى الله عليه وسلم)كأبي ذر، والمقداد، وعلي بن ابي طالب، وبلال، وسلمان، وعمّار، وأمثالهم الكثيرون (وان كانوا لا يمثّلون الا عدداً قليلاً من بين الصحابة. ويتفق كل المسلمين على ان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وصف هؤلاء الافراد بالعدالة وبشّر بأنهم من أهل الجنّة. ولهذا السبب تقر الامة كلّها عدالتهم انطلاقاً من وجود أحاديث متواترة عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في تقواهم وعدالتهم. ويمكن الاستناد الى شهادة هؤلاء الصحابة العدول المُجمع عليهم، للاستدلال على عدالة قسم آخر من الصحابة.
وعلى هذا الأساس ينبغي ان يكون هناك كتاب في علم الرجال للتمييز بين الصحابة العدول وغير العدول. وأتْباع عترة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لديهم مثل هذا الشيء في كتبهم الرجالية. وبوجود مثل هؤلاء الافراد العدول من الصحابة (الذين ثبتت عدالتهم بما تواتر من شهادة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، و…) لا تنقطع ايدينا عن سنّة الرسول، حتى اذا شككنا في عدالة قسم آخر من الصحابة.
نذكر على سبيل المثال ان علياً نشأ في بيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وكان بمثابة الابن، وكان على الدوام ملازماً للرسول ومدافعاً عنه. ومن الطبيعي ان مثل هذا الشخص لديه اطلاع تام على حالات الرسول، وافعاله، وأقواله. وبالنتيجة فان وجود مثل هؤلاء الصحابة الذين تُجمع الأمة على عدالتهم يجعل من غير الصحيح ان نقول بأننا اذا اردنا الشك في عدالة البعض ـ كالوليد بن عقبة( ) شارب الخمر ـ ستنقطع ايدينا عن رسول الله صلوات الله عليه.
وبالنتيجة لا يتحقق الدور المحال هنا؛ لأن عدالة رسول الله ثابتة على اعتبار ان الله قد اصطفاه وائتمنه على وحيه. وعدالته لا تحتاج الى تأييد وشهادة شخص آخر. وهو ـ أي الرسول ـ قد شهد على عدالة هؤلاء الافراد ـ الذين ذكرناهم ـ ووصلتنا شهادته بالتواتر.
ثانياً: كيف يمكن القول بعدالة جميع الصحابة من غير استثناء، في حين بيّن القرآن فسق بعضهم، كما هو الحال بالنسبة الى الوليد بن عقبة (شارب الخمر) الذي دلّت على فسقه آية النبأ من سورة الحجرات، وقد وردت قصّة شربه للخمر في اخبار متواترة نقلها حتى البخاري( ) المؤيد لبني أُميّة؟ أو كيف يمكن القول بعدالة المنافقين من الصحابة الذين وصفهم الله تعالى في سورة (المنافقون) بالكذب، وكان عددهم كبيرا ً( ).
ـ الاستدلال بآيات القرآن على عدالة جميع الصحابة (بلا استثناء):
1ـ ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً﴾( ).
استندوا الى دلالة الآية المذكورة آنفاً للقول بعدالة كل من كانوا مع الرسول.
الآية الاخرى التي استدلوا بها على عدالة كل المهاجرين والانصار من الصحابة:
﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ﴾( ).
فبما ان الله تعالى اعلن في هذه الآية عن رضاه عن السابقين من الصحابة من المهاجرين والانصار الذين آمنوا بالرسول، ووعدهم الجنّة؛ إذاً فكل الذين هاجروا، وكذا الأنصار، عدول.
الآية الثالثة حول المهاجرين من الصحابة:
3ـ ﴿لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾( ).
وهي ان الله تعالى شهد في هذه الآية على ان كل من هاجروا مع الرسول صادقون.
الآية الرابعة حول اصحاب الشجرة:
4ـ ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ﴾( ).
بحث حول هذا الاستدلال:
ان الله الذي انزل هذه الآيات، هو الذي أنزل سورة (المنافقون) أيضاً. فبحق من نزلت سورة (المنافقون)؟ لابد وانها نزلت قطعاً بحق بعض أصحاب الرسول ممن كانوا منافقين، وهي (سورة المنافقين) لم تنزل بحق التابعين أو الاجيال اللاحقة أو بحقّ أمم اخرى. لقد وصف الله عز وجل بعض من تظاهروا بالاسلام وكانت لهم صحبة مع الرسول بالمنافقين، في أول سورة العنكبوت، وأول سورة البقرة وأول سورة “المنافقون”. جاء في أول سورة “المنافقون” ما يلي:
﴿إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ﴾( ).
واضافة الى سورة “المنافقون” هناك سور كثيرة اخرى تحدثت عن النفاق، ومنها اوائل سورة البقرة، وهذه السورة نزلت في السنة الاولى للهجرة؛ أي قبل صلح الحديبية، وحتى قبل معركة بدر. وفيها قال تعالى:
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾( ). ثم يقول بعد ذلك ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ…﴾.
وهناك سور اخرى تتحدث عمّا قبل الهجرة حيث اشارت الى حالة النفاق والمنافقين من بعض الصحابة حتى قبل الهجرة. والمثال على ذلك سورة العنكبوت (الم* أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ* وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾. ﴿وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ)( ) فهذه السورة نزلت قبل الهجرة. والدليل على ذلك ان آية الأمر بالهجرة وردت فيها. وكذا الحال بالنسبة الى الآية السادسة من سورة الحجرات فهي تحمل دلالة على فسق بعض الصحابة، وهي الآية المعروفة بآية النبأ:
﴿…إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا﴾( ).
وقد نزلت بحق الوليد بن عقبة، الذي كان من أصحاب الرسول باعتراف الجميع، وقد كلّفه الرسول بمهام عدّة مرّات، ولا يشك احد في صحبته. فهذه الآية تأمر صراحة بعدم الاستماع لكلام هذا الفاسق. أي ان الله يشهد ان هذا الصحابي فاسق، اذ انه كذب في قضية وألبس على الناس. طبعاً هناك من يبرر فعله ويزعم بأنه لم يقصد الكذب، ولكن الله تعالى صرّح بأنه فاسق وكاذب. وهذه ليست الآية الوحيدة الدالة على فسق الوليد، بل كل المسلمين يقرّون ذلك، ونذكر على سبيل المثال انه ورد في المجلد الرابع من كتاب البخاري، باب عثمان بن عفان، ومن باب هجرة الحبشة عن عثمان بن عفان وفي بقية كتب الحديث والتاريخ ان علياً قد اقام الحدّ على الوليد، لقضية نوجزها في ما يلي: ان عثمان بن عفان اثناء خلافته ولّى الوليد على الكوفة (بسبب قرابته لأنه كان اخوه لامه). وفي احدى الليالي شرب الخمر ودخل المسجد فصلّى بهم صلاة الصبح اربع ركعات، ثم التفت اليهم وقال: هل ازيدكم؟ فخرج رهط من اهل الكوفة في امره الى عثمان. فاستدعاه عثمان الى المدينة، وجلده علي ابن ابي طالب بعد ان ثبت عليه شرب الخمر.
وخلاصة الكلام هي ان امثال هذه القضايا كانت كثيراً ما تحصل. وقد وردت في المصادر المختلفة ومنها في كتاب البخاري، في باب كتاب الحدود، في باب شرب الخمر، وحد الزنا، وحد المحارب، وغيرها ان هذه الحدود واحكام القصاص اقيمت في زمن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على بعض الصحابة. وهناك آيات تدل على ان بعض الصحابة كانوا فاسقين:
﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا﴾( ).
وكذلك آية النبأ:
﴿إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾( ). التي نزلت بحق الصحابي الوليد بن عقبة( ).
وكذلك نقلت كتب الحديث في ابواب الحدود بشكل متواتر ان اول من اُقيم عليهم حد الزنا بالمحصنة، وحدّ المحارب، وحد السرقة وغيرها من حدود الذنوب الكبيرة في عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم)كانوا من اصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من قبائل بني مخزوم وبني أسلم وغيرها. وهناك من هؤلاء الصحابة ممن اقيم عليه الحد في عهد الرسول (صلى الله عليه وسلم) أو بعد عهد الرسول (صلى الله عليه وسلم) مثل قدامة بن مظعون وهو صحابي بدري، وقد اقيم عليه الحد بسبب شرب الخمر، وكذا الوليد بن عقبة الذي اقيم عليه الحد للسبب نفسه، وغيرهما. كما ان هناك آيات تبيّن ان الكثير من الصحابة كانوا ضعفاء الايمان، ومن هذه الآيات الآية الاخيرة من سورة الجمعة، وهي:
﴿وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً﴾. وتوضيح ذلك هو ان الناس كانوا يصلّون الجمعة خلف رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وفي تلك الاثناء قُرعت الطبول معلنة وصول قافلة تجارية، فتركوا الرسول قائماً وحده وذهبوا وراء التجارة والدينار. ونقل جميع الرواة (كما ورد في تفسير سورة الجمعة) بأنه بقي اثنا عشر شخصاً وراء الرسول. وبعد ذلك قال رسول الله بأن هؤلاء النفر لو كانوا قد ذهبوا أيضاً لأرسل الله ناراً تحرق الجميع. أي انهم اقترفوا ذنباً كبيراً حين تركوا الرسول قائماً وحده في صلاة الجمعة من اجل التجارة.
وفي الحروب وقع ما هو اسوأ من ذلك؛ ففي معركة اُحُد بقي مع الرسول من قريش رجلان فقط، هما علي والحمزة وكلاهما من بني هاشم. وقد استشهد الحمزة. وبقي من الانصار سبعة، أما الاكثرون فقد فرّوا وتركوا الرسول والمؤمنين الذين بقوا معه حتى قُتلوا جميعاً لقلّتهم الا رسول الله ونفرين من قريش واما الاكثرون ففرّوا ليحافظوا على أرواحهم.
ولابدّ من الاشارة الى انّ عدد أفراد هذا الجيش كان ألفاً حين خرجوا من المدينة، ولكن رجع ثلاثمائة منهم عند منتصف الطريق فبقى سبعمائة. ألَم يكن نصف هذا الجيش من البدريين؟ فلماذا فرّوا إذاً؟
وذهب آخرون وجلسوا فوق جبل اُحد ليبحثوا عن طريق للتخلّص من ذلك المأزق، وأرادوا العودة الى المدينة ليطلبوا من عبد الله بن أُبي ليشفع لهم عند أبي سفيان، أملاً في أن يصفح عنهم. لاحظوا كيف غضب الله عليهم في سورة آل عمران، حين يقول لهم:
﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِين* وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُون﴾( ).
وتبين عندذاك بأن هناك عدد قليل من الصحابة الذين بقوا مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
وتكشف هذه الاية ان قليلاً من الصحابة كانوا راسخي الايمان، وبعد عدّة آيات من سورة آل عمران أي في الآية 152 ورد ذمٌ اشد لهذه الجماعة من الصحابة وقيل صراحة (عصيتم). أي على العكس مما يزعمونه في ان الصحابة لا يخطأ أي منهم ولا يعصون الله:
﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ﴾.
اذاً هذه الآية تريد ان تبيّن بأن الصحابة الذين ثبتوا وقاوموا كانوا يريدون الآخرة، واما الذين عصوا وتركوا ساحة القتال فهم آثمون ويريدون الدنيا. ثم لدينا آيات اخرى تقول ان من يريد الدنيا فمصيره الى جهنم:
﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً* وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً﴾( ) أي ان كل من يريد الدنيا ومتاعها كالحصول على الغنائم او الوصول الى سدّة الحكم، نعجّل لمن نشاء منهم بلوغ غايته. ولكن بعد ان يأكل الغنيمة ويستمتع بالرئاسة، ويحصل على ما يريد في الدنيا، يأتى بعد ذلك دور جهنم حيث يخلد فيها. أي ان صغرى القضية تفهم من سورة آل عمران، وتفهم كبراها من سورة الاسراء، وذلك على الترتيب التالي: تفيد سورة الاسراء ان من يريد الدنيا فهو من أهل جهنم؛ وبعض الصحابة ارادوا الدنيا، وهذا يُفهم من سورة آل عمران في قوله: ﴿مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا﴾.
اذاً فالنتيجة التي نستخلصها هي ان أكثر الصحابة كانوا يريدون الدنيا (كالحصول على الغنائم، والوصول الى السلطة، وحب الرئاسة، وكل ما هو دنيوي) او كانوا ضعفاء الايمان، والله تعالى يعجّل لمن يشاء منهم نيل تلك المآرب، ولكن في الآخرة يكون نصيبهم العذاب الأبدي. وبشهادة القرآن ان امثال هؤلاء الذين يريدون الدنيا كانوا في أحد، وكانوا أيضاً في بدر. ولكن يوجد في مقابل هؤلاء من يريدون الآخرة. وقد اثبتوا عملاً انهم لا يبتغون الدنيا، وانما يبتغون الآخرة ويرومون الحصول عليها بأي ثمن كان، وان كلّفهم ذلك حياتهم، وسينال هؤلاء جزاءهم وهو افضل الجزاء.
وهناك مجموعة اخرى من الآيات جاءت بهذا المضمون وهي تثبت هذا المعنى صراحة، ولا تحتاج الى أي توضيح، كقوله تعالى:
﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُون* أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ﴾( ).
وقوله تعالى في سورة الشورى:
﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ﴾( ).
ويفهم من التوضيحات التي مرّت علينا آنفاً ان قضية حب الدنيا والرغبة فيها كانت موجودة في السنة الثالثة للهجرة؛ أي فى وقت معركة اُحد. واذا رجعنا الى الوراء قليلاً، نلاحظ في سورة البقرة، وهي السورة التي نزلت في السنة الاولى للهجرة، بأن الله تعالى قد تحدّث فيها عن موضوع النفاق؛ اذ ورد فيها ما يلي:
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾( )؛ والمعنى انهم منافقون. اذاً فهذه الآية تصرّح بوجود منافقين بين المسلمين حتى في السنة الاولى للهجرة.
اذاً يتضح لنا انه كان هناك بين المسلمين منافقون، وحتى في السنة الاولى لهجرة الرسول. وهذه حقيقة يجب اقرارها.
هل كان هناك نفاق بين السابقين من الصحابة؟
ولو قال قائل بأن السابقين ـ والمراد بالسابقين من أسلموا قبل الهجرة ـ كلهم عدول. فجوابه نطقت به سورة العنكبوت. وهذه السورة مكية؛انها نزلت قبل الهجرة. والدليل على ذلك ان الأمر بالهجرة قد ورد فيها. ومن الطبيعي ان الأمر بالهجرة قد نزل قبل الهجرة وليس بعدها. قال الله عز وجل في هذه السورة في وصف بعض السابقين من الصحابة:
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُون* وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾( )… ﴿وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ﴾( ).
ويبدو ان هذه الآية نزلت حتى قبل الهجرة الى الحبشة، ومع ذلك فهي تتحدث عن النفاق في ذلك الوقت.
ولو اردنا الاقتراب اكثر الى ان نصل الى السنة الاولى من البعثة، فعلينا ان ننظر الى السور التي نزلت قبل سورة العنكبوت؛ واحدى هذه السور هي سورة المدّثر. هذه السورة من اوائل السور التي نزلت على قلب النبي الكريم (صلى الله عليه وسلم)؛ أي في السنوات الاولى للبعثة. ومع ذلك نلاحظ ان الله جل وعلا يقول فيها:
﴿… وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً﴾( ) أي ان الكافرين ومن في قلوبهم مرض يعترضون على الله ويقولون ماذا يريد بهذا؟ وهنا نلاحظ ان الله جعل الى جانب الكافرين مجموعة اخرى اطلق عليها تسمية “الذين في قلوبهم مرض”. وهذه المجموعة منفصلة عن الكفار أي انها ليست من الكفار.
يقول الله تعالى في هذه الآية ان هناك طائفتان من الناس يعترضون على ارادتي:
الطائفة الاولى: هم الكفار.
والطائفة الثانية: الذين في قلوبهم مرض. ومعنى هذا الكلام ان هذه الطائفة من المسلمين وليس من غيرهم. هذه الطائفة في الحقيقة هم المنافقون الذين يصفهم الله تعالى بهذه الصفة في عدّة مواضع في القرآن الكريم، نذكر منها ما ورد في اول سورة البقرة، حيث قال تعالى: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً﴾. اذاً يمكن القول ان النفاق قد ظهر وتبلور في السنة الاولى من البعثة. وقد اعلن الله عز وجل عن رضاه عن المسلمين الاوائل في الآية المائة من سورة التوبة، كما ذكرنا ذلك سابقاً. ولكن عدا المسلمين الاوائل الذين سبق الحديث عنهم ولم يكن فيهم منافقون، يحتمل وجود النفاق بين غيرهم سواء كانوا من السابقين أم من غير السابقين.
الاستدلال الذي يستدل به “مؤيدو نظرية عدالة جميع الصحابة”، حول النفاق قبل الهجرة هو ان الاسلام كان قبل الهجرة يعيش في غربة وكان المسلمون يتجرّعون انواع التعذيب والأذى. ومن الطبيعي ان مثل هذه الظروف لا يوجد فيها أي دافع أو مصلحة للنفاق، بل تكاد تنعدم المبررات او الظروف المساعدة لوجوده. ولكن بعد الهجرة وفي اعقاب فتح مكة توفّرت الظروف المساعدة لنشوء النفاق بعدما غدا المسلمون أصحاب سلطة وقوّة. وكان من الممكن بعد الهجرة وبعد سلطة المسلمين ان يُسْلم البعض خوفاً على حياتهم. أي ان وجود النفاق قبل الهجرة ممتنع عقلاً.
وهذا الاستدلال له جوابان:
الجواب الاول: جواب نقض، وهو وجود آيات في سورة العنكبوت وسورة المدّثر يشير فيها الله تعالى الى وجود النفاق في ذلك الوقت، زمن ما قبل الهجرة. فكيف يمكن نفي وجود النفاق مع وجود مثل هذه الآيات.
الجواب الثاني: جواب حل، وهو ان المنافقين ليسوا كلهم من جنس واحد. فهناك النفاق الذي يأتي نتيجة الخوف. ومن الطبيعي ان هذا النوع من النفاق توفّرت له موجباته من بعد الهجرة وبعدما صارت للاسلام قوّة وشوكة. كما هو الحال بالنسبة الى ابي سفيان الذي دفعه الخوف على حياته الى اعلان اسلامه، بينما كان قلبه على منهج النفاق. ولكن هل النفاق ينحصر في هذا النوع فقط وهو ما يمكن ان نطلق عليه تسمية دخول الاسلام خوفاً؟ ألا يُحتمل ان يكون هناك قوم اسلموا في أول البعثة بدافع التجسس على المسلمين أو لاغراض سياسية مستقبلية، أو طمعاً في نيل شيء من المعونات التي كان يقدّمها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من اموال خديجة لفقراء المسلمين، وما شابه ذلك من الأسباب والدوافع؟ يمكن ان نطلق على هذا النوع تسمية دخول الاسلام طمعاً.
حتى لو تحاشينا اطلاق تسمية المنافقين على من اسلموا طمعاً في مصالح دنيوية، واعتبرناهم افراداً في قلوبهم مرض حب الدنيا، جرياً وراء الوصف الذي ورد في سورة المدّثر. وبالنتيجة فمن الواضح بأنَّ من يحملون مثل هذه الدوافع الدنيوية اذا شعروا يوماً بأنهم لم يحققوا مآربهم، فهم أما ان يتجهوا نحو الكفر (إن امكن ذلك) أو ان ينتهجوا اسلوب النفاق (إن كانوا قد اسلموا من قبل). وعلى كل الاحوال فانَّ ايمانهم ليس الايمان الحقيقي الذي يرتضيه الله.
ولغرض تسليط مزيد من الضوء على هذا الموضوع نعود الى الوراء مرّة اخرى وننظر الى زمان ما قبل البعثة، ونطرح السؤال التالي: هل كان الناس ـ أو عدد منهم على الأقل ـ يعلمون بانه سيظهر نبي وسوف يسود دينه وسلطته في كل العالم، وانه سيحقق انتصارات كبرى؟ أم كانوا يجهلون ذلك؟
الشيء الذي نفهمه من القرآن والاحاديث المتواترة هو ان التوراة، والانجيل، والزبور، والانبياء السابقين قد بشروا أو وعدوا بظهور نبي الاسلام. مثلما هو الحال في الوقت الحاضر حيث تبشر المذاهب الاسلامية أو حتى غير الاسلامية بظهور الامام المهدي.
وقبل بعثة النبي أيضاً كانت كتب التوراة والانجيل والزبور قد وعدت بظهور نبي آخر الزمان وبيّنت علاماته، وان دينه سينتشر في العالم كله، ويغلب على الاديان الاخرى وينسخها. وكان الناس واتباع الاديان الاخرى يتوقعون وينتظرون ظهوره، كما هو الحال بالنسبة الى سلمان الفارسي الذي غادر بلاد فارس وتوجّه الى الحجاز استناداً الى العلامات التي ذكرت له بأن نبي آخر الزمان سيظهر في الحجاز. ونذكر من تلك العلامات ان النبي موسى كان يقول لأمّته: يا بني اسرائيل سيظهر من اخوانكم نبي يركب الجمل و …( )، ومراده من راكب الجمل، انه عربي؛ وذلك لأن ركوب الجمال صفة يختص بها العرب. وكذلك اخبر النبي عيسى ـ عندما ولد ـ بظهور نبي آخر الزمان، وهذا ما بيّنه الله تعالى في الآية الشريفة:
﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ…﴾ ( ).
وتكشف هذه الآية ان النبي عيسى قد بين لأتباعه كل علامات وخصائص نبي الاسلام وحتى انه ذكر لهم اسمه. وكذلك ورد في الآية 75 من سورة الأعراف قوله تعالى:
﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيل﴾.
وكذلك قال الله تعالى في آية اخرى:
﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ﴾( ).
أي ان علماء أهل الكتاب يعرفون النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) كما يعرفون ابناءهم من غير ان يخالجهم أي شك او ترديد فيه، وتنطبق عليه كل صفات وعلامات رسول آخر الزمان، وهو ذلك النبي الموعود. وورد تعبير آخر مشابه لهذا التعبير تماماً في الآية 20 من سورة الانعام. فهل هناك دليل أسطع من هذا؟ فالله تعالى كأنّه يقول بأنه من الواضح لهم ان هذا نبي كوضوح الشمس في رابعة النهار.
وفضلاً عن كل ذلك فقد أشار تبارك وتعالى في الآيتين 75 و76 من سورة البقرة الى قضية اخرى تسترعي الانتباه، وهي ان بعض اليهود قد تظاهروا بالاسلام، وعندما كانوا يلقون المسلمين كانون يقولون لهم: اننا كنا نعلم بظهور نبي الاسلام، ونعلم بأنه يقضي على عبادة الأصنام. ولكنهم عندما كانوا يخلون مع بعضهم كانوا يتلاومون، ويقولون: لماذا تخبرون المسلمين بكل شيء؟ ألا تعلمون ان هذا الكلام يساعد المسلمين على اثبات أحقيّة دينهم؟ أليس لكم عقل ينهاكم عن إفشاء هذه الاسرار للمسلمين؟ وقال أيضاً في آية اخرى وهي الآية 157 من سورة الاعراف بأن أهل الكتاب يعرفون النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) بكل خصائصه واوصافه.
وخلاصة الكلام هي ان كل من كانت لديه أدنى معلومات عن الكتب السابقة فلابد وانه كان يعرف نبي الاسلام، ويعلم بأنه هو نبي آخر الزمان.
وعلى صعيد آخر لم يكن مشركو مكّة، أناس انطوائيين ومجرّدين من الوعي والمعرفة، بل كانوا يعيشون في موطن كمكّة، وهو موضع يفد إليه الناس من جميع انحاء جزيرة العرب لزيارة الكعبة وينقلون إليه كل ما يدور من اخبار جزيرة العرب. بالاضافة الى ذلك كانت مكّة مدينة تجارية تنطلق منها القوافل التجارية الى جميع ارجاء جزيرة العرب والى الشام وغيرها من بقاع منطقة الشرق الاوسط، وتأتى إليها قوافل كثيرة من بقاع شتّى. ويمكن القول بأنه لا يحدث حدث في مكّة إلاّ وينتقل خبره بسرعة الى كافة ارجاء شبه جزيرة العرب. ولا يحصل شيء مهم في ارجاء جزيرة العرب الا ويتناهى خبره إلى أسماع أهالي مكّة.
وعلى اية حال فقد كان مشركومكّة يعلمون ـ عن طريق أهل الكتاب ـ بأن محمداً (صلى الله عليه وسلم) رسول الله، خاصة بعدما رأوا منه معجزات، ولكن الشيء الوحيد الذي كان يصعب عليهم قبوله هو ان المتعصّبين من المشركين لم يكونوا قادرين على التخلّي عن أصنام بقوا عاكفين على عبادتها سنوات طويلة، ولم يكن من السهل عليهم نبذ معتقدات آبائهم واجدادهم. ولذلك قالوا لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) انّك اذا اعترفت بأصنامنا ولم تظهر لها العداء فاننا نقبل كل ما تقول. وفي خضم تلك الظروف والملابسات كان هناك أناس اذكياء ودهاة وانتهازيّون ممن كانوا يطمحون الى ان يجلبوا لأنفسهم منفعة دنيوية في ظل وجود هذا النبي الخاتم.
في تلك الاثناء اندفع البعض بنيّة خالصة ومن اجل الوصول الى الحق والحقيقة، وقدموا من بلاد قاصية واعتنقوا الاسلام، وآمنوا بالرسول وقاوموا في هذا السبيل الى حدّ التضحية بالنفس. ولكن في تلك الأثناء كان البعض يحدّثون انفسهم ويقولون: لابد ان هذا الحزب سوف ينتشر في العالم، ويستولي على زمام الحكم ومن المؤكد ستكون وراءه منافع كثيرة.
وعلى صعيد آخر كانوا يسمعون من الرسول الذي اثبتت معجزاته حقّانيّته، انه وعد بفتح خزائن كسرى وقيصر. فكان هؤلاء يقولون لأنفسهم: لماذا لا يكون لنا نصيب من هذه المصالح. فلنؤمن ولو من اجل الحصول على منافع دنيوية.
وعند حلول الامتحان الالهي سقطت كل هذه الأقنعة بشكل أو آخر. وكشف الله عن ذلك قبل الهجرة في سورة العنكبوت في قوله:
﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ﴾.
وقد حان الآن وقت الامتحان. وكان اول امتحان، امتحان شعب أبي طالب، وما حصل فيه من حصار اقتصادي صارم، حيث بلغت الضغوط على بني هاشم واصحاب رسول الله ـ صلوات الله عليه ـ حداً لا يُطاق؛ وكان انين اطفال بني هاشم يتناهى الى اسماع ذوي القلوب المتحجّرة من أهالي مكّة ولكن من غير أن يؤثر فيها. وكان شبّان ورجال بني هاشم يقتاتون على التمر ولا يكاد احدهم يحصل على تمرة واحدة في اليوم بل على نصف تمرة احياناً. وفي تلك الظروف كانت اوضاع بني هاشم تثير الأسى في قلوب بعض الناس حتى ان بعض الكفار والمشركين في مكّة رقّوا لهم، مثلما فعل حكيم بن حزام (ابن اخ خديجة) الذي كان يجلب التمر لبني هاشم خفية وبعيداً عن اعين المشركين.
والسؤال الذي يتبادر الى الأذهان هنا هو: في تلك الظروف العصيبة التي دفعت بعض المشركين من اقارب خديجة الى تقديم العون لبني هاشم، اين كان كبار الصحابة القرشيين من غير بني هاشم؟ ومن المؤكد انهم لم يكونوا في الشِعب، لأن الشعب كان فيه بنو هاشم فقط. اذاً فهم كانوا في مكّة، ولم يدخلوا مع الرسول (صلى الله عليه وسلم) في الشعب، بل ولم يرسلوا له تمرة واحدة، ولم يقدّموا ادنى مساعدة للرسول (صلى الله عليه وسلم) في تلك المدّة الطويلة التي اقترنت بظروف عصيبة وضغوط لا تُطاق.
هؤلاء الذين اسلموا في الظاهر لم ينفعوا الرسول حتى في الظروف التي كان يبادر فيها بعض مشركي وكفّار مكّة ـ من اقارب خديجة ـ الى تقديم العون خفية الى بني هاشم عندما تتوفر لهم الفرصة لهذا العمل احياناً. ولكن مسلمي قريش من غير بني هاشم لم يقدّموا أي عون للرسول في ذلك الظرف الصعب.
إذاً نلاحظ بأن هؤلاء القريشيين من غير بني هاشم لم تكن لهم مواقف مشرقة قبل الهجرة. وأما ما بعد الهجرة فقد قلنا بأن مواقفهم كانت عبارة عن مخالفة الرسول في معركة بدر، والفرار في معركة أحد، وكذلك الفرار في معركة حنين. وقد اقر المؤرخون والمحدّثون (ومنهم البخاري) بأنهم قد فرّوا من المعركة. فقد نقل البخاري رواية عن ابي قتادة جاء فيها: «وانهزم المسلمون وانهزمت معهم فاذا بعمر بن الخطاب في الناس». وخاطب القرآن الكريم في سورة التوبة المسلمين بما يلي: ﴿ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ﴾( ).
ونقل البخاري عند ذكره لغزوة حنين، وكذلك ذكر مسلم في باب الانفال بأن أبا قتادة قال بأن الناس قد انهزموا وانهزمت أنا معهم، ورأيت في تلك الاثناء بأن عمر قد انهزم أيضاً. وذكر أيضاً عند حديثه عن غزوة احد (ونقل البخاري عند حديثه عن غزوة خيبر في فضيلة اسماء بنت عميس، ونقل مسلم في باب فضائل الصحابة عند ذكر فضائل جعفر بن ابي طالب واسماء بنت عميس ونقل آخرون أيضاً) خبراً متواتراً وهو ان عمر بن الخطاب دخل على حفصة واسماء عندها فقال عمر حين رأى اسماء: من هذه؟
قالت: اسماء بنت عميس. قال عمر الحبشية هذه البحرية هذه؟ فقالت اسماء: نعم. فقال عمر: سبقناكم بالهجرة فنحن احق برسول الله ـ صلوات الله عليه ـ منكم. فغضبت وقالت كلمة كذبت يا عمر كلا والله كنتم مع رسول الله ـ صلوات الله عليه ـ يطعم جائعكم ويعظ جاهلكم وكنا في دار أو في ارض البعداء البغضاء في الحبشة وذلك في الله وفي رسوله. وأيم الله لا اطعم طعاماً ولا اشرب شراباً حتى اذكر ما قلت لرسول الله فلما قالت اسماء لرسول الله صلوات الله عليه ـ فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ليس بأحق بي منكم وله ولأصحابه هجرة واحدة ولكم انتم اهل السفينة هجرتان…
وقد ذكرنا بأن من الصحابة السابقين الذين هاجروا الى الحبشة ـ قبل الهجرة الى المدينة ـ عبيد الله بن جحش زوج ام حبيبة التي اصبحت في ما بعد زوجة رسول الله (صلى الله عليه وسلم). فهذا الرجل كان قد أسلم في مكّة وهاجر الى الحبشة. وهناك وعدهم نصارى الحبشة بالاموال ليردوهم عن دينهم؛ فطمع هذا الرجل وتعجّل الحصول على المال الذي كان قد أسلم من اجله، ولم يصبر على أمل ان يحقق لهم الرسول الثراء، وبمجرّد ان لاحظ بأن الظروف قد تهيّأت له ارتد عن الاسلام. أي ان هذا الرجل كان من السابقين، حيث كان قد أسلم قبل الهجرة ولكن اسلامه كان من اجل الدنيا كما بيّنت ذلك سورة العنكبوت، وأدى الامتحان ولكن فشل فيه، فصار من أهل النار.
ومن هؤلاء الاشخاص أيضاً عبد الله بن خطل الذي هاجر مع الرسول، ووقف الى جانب رسول الله في المدينة وكان من السابقين من المهاجرين. وقد بعثه رسول الله لأمر مع عدد من الغلمان، فقتل عبد الله الغلمان في الطريق لخلاف وقع بينهم أو لسبب آخر، وفر الى مكّة والتحق بالمشركين.
ومن هؤلاء الاشخاص أيضاً عبد الله بن ابي سرح أخو عثمان من الرضاعة، اسلم وهاجر الى المدينة، فارتد كافراً ورجع الى مكة وأخذ يثير الدعايات ضد رسول الله أكثر من أي شخص آخر. وكان يقول لقريش اني لأقول من نفسي مثل ما يجيء به فما يغيّر عليَّ فأنا أنزل مثل ما ينزل. فانزل الله تبارك وتعالى فيه:
﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾.
سنأتي على ذكر عاقبة هذين الشخصين ثم نستأنف الكلام عن الآخرين. ففي فتح مكّة أمر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) جيش المسلمين ان لا يتعرضوا لمن لا يقاتلهم ولا يؤذوا أحداً من الناس واستثنى من ذلك عدّة اشخاص منهم عبد الله بن خطل، وعبد الله بن ابي سرح ممن كانوا قد اقترفوا جرائم قتل، أو جنايات اخرى. فقد أمر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ان يُقتلوا حيثما وجدوا حتى وان كانوا متعلّقين بأستار الكعبة. وقد وجدوا عبد الله بن خطل الى جانب استار الكعبة فقتلوه هناك.
وأما عبد الله بن ابي سرح فقد اختبأ في دار عثمان عدّة أيام الى ان هدأت الأوضاع، فجاء به عثمان قد أخذ بيده ورسول الله في المسجد. فقال: يارسول الله، إعف عنه، فسكت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ثم أعاد فسكت، ثم أعاد، فسكت رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
فلمّا مر قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لأصحابه: ألم أقل من رآه فليقتله؟ فقال رجل: كان عيني عليك يارسول الله ان تشير إليَّ فاقتله. فقال (صلى الله عليه وسلم): ان الانبياء لا يقتلون بالاشارة.
وقد نقلت كتب التاريخ هذه الحادثة. وكان هذا الشخص سبباً في قتل عثمان لاحقاً. فقد عيّنه عثمان في زمن خلافته والياً على مصر، ونصب أخاه من امّه الوليد والياً على الكوفة. وهذا الوالي يعني الوليد بن عقبة هو الذي فعل تلك الفضيحة الكبرى في الكوفة. وأما عبد الله بن ابي سرح فقد انزل الكثير من الأذى والبلاء في أهالي مصر؛ فقتل من شاء منهم من الابرياء وسجن من شاء وحكم فيهم بما هو أسوأ من حكومة كسرى وقيصر، الى ان اجتمع الناس هناك وساروا الى المدينة للتظلّم عند عثمان. وقد تظاهر عثمان بأنه قد قبل شكواهم ووعدهم ان يستبدله بوال آخر. ولكنه كتب إليه سرّاً بأن يقتل هذه الجماعة (التي قدمت عليه للشكوى) متى ما وصلت الى مصر وبعث ذلك الكتاب بيد مبعوث على جمل سريع.
وفي الطريق الى مصر شاهدت تلك الجماعة مبعوث عثمان وشكّوا في أمره، وفتّشوا ما كان معه فوجدوا في قربة الماء كتاب عثمان الذي يأمر فيه واليه على مصر بقتل هؤلاء المتظلّمين القادمين من مصر. فرجعوا الى المدينة وقتلوا عثمان. وقد ورد سرد هذه القضيّة بالتفصيل في كتب التاريخ. وأما ما قيل بأنه كانت لعمار وعلي يد في قتل عثمان فليس صحيحاً. وانّما كان عمار من بين من حاصروا دار عثمان، مثلما كان طلحة بينهم أيضاً وقد منع طلحة الماء عن عثمان. ولكن الذي قتل عثمان هم اولئك النفر الذين قدموا من مصر، والذين غضبوا على عثمان وقالوا بأنه اذا اريد لنا ان نُقتل ظلماً فينبغي أوّلاً قتل أساس الظلم وهو عثمان. وخلاصة الكلام هي ان عبد الله بن ابي سرح الذي لم يؤمن بالله قط قد انتهى الى هذه العاقبة، وكان على الدوام مصدراً للفتن والمظالم.
ـ ومن الصحابة الآخرين أيضاً حاطب بن ابي بلتعة. والغاية من ذكر هذا الشخص هي ان البعض يزعم بأن كل البدريين من أهل الجنّة مهما فعلوا وان الله يثيبهم الجنّة جزاءً على مشاركتهم في هذه المعركة، حتى وان عصوا لاحقاً او اقترفوا ذنوباً كبيرة( ). فقد شارك حاطب بن ابي بلتعة في معركة احد أيضاً، وقد أمره رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بحماية جبل أُحد، وقال له ولمن معه: لا تتركوا موضعكم هذا سواء رأيتمونا انتصرنا على العدو أم انتصر العدو علينا. ولكن هذا الرجل بمجرد ان رأى هزيمة المشركين طمع في ما تركوه من اموال، وغادر مكانه ونزل من الجبل على وجه السرعة للحصول على الغنائم. فاستغل خالد بن الوليد تلك الثغرة والتفّ منها على المسلمين، مما أدى الى هزيمة المسلمين ومقتل حمزة سيد الشهداء.
والخيانة الاخرى التي ارتكبها هذا الشخص هي ان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عندما أمر المسلمين بالتجهّز والاستعداد لفتح مكّة، أوصاهم بكتمان الأمر لغرض الاحتفاظ بمبدأ المباغتة وسلب أهالي مكّة أية مقدرة على المقاومة. ولكن هذا الصحابي؛ أي حاطب، كتب سراً كتاباً الى أهل مكّة يخبرهم فيه بما عزم عليه رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وبعث ذلك الكتاب بيد امرأة تدعى سارة، لتوصله الى مكّة. وقد اطلع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن طريق الغيب على هذه المؤامرة التي فعلها حاطب. ومن الطبيعي ان الشخص المتديّن لا يُقدم على مثل هذا العمل ابداً. وقد نقل هذه القضية كل من البخاري ومسلم( )، ولكنهما اضافا اليها تلك الاكذوبة الاولى التي تزعم بأنَّ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: “لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم. والقول بأن يعملوا ما شاءوا وانه يدخلهم الجنّة، فيه مخالفة لصريح القرآن. فقد جاء في أول سورة الحجرات، ما يلي:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ﴾( ) حيث كان بعض البدريين من مسلمي قريش( ) يرفعون اصواتهم فوق صوت النبي فنزلت هذه الآية تأمرهم بأن لا ترفعوا اصواتكم فوق صوت النبي، والا فان ذلك يحبط اعمالكم فتكونون من أهل النار، وانتم يا أهل بدر اذا اذنبتم فستكونون من أهل النار. ولكن نلاحظ أن هؤلاء يزعمون بأن لأهل بدر ان يفعلوا ما شاءوا فان الله يدخلهم الجنّة. وفضلاً عن ذلك فانَّ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الذي كان بدرياً بل وأسمى من البدريين، كان يقول:
﴿إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيم﴾( ) وهو من يصفه الباري تعالى في كتابه الكريم بالخلق العظيم ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾( ).
ورغم كل ذلك فقد قال عنه في موضع آخر: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ﴾( ).
اذاً فحينما لا يحق للرسول ان يقترف ادنى معصية، وحينما يرفع هذان الصحابيان صوتهما فوق صوت النبي تنزل آية تحذرهما بأن هذا السلوك يُحبط أعمالهما رغم انهما من أهل بدر، فكيف يمكن القول بأن الله يغفر لأهل بدر مهما فعلوا؟ وقد نصّت سورة الحجرات على ما يلي: ﴿لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ﴾.
ـ ومن البدريين الآخرين، قدامة بن مظعون، أخو عثمان بن مظعون. كان عثمان بن مظعون تقياً، وكان اخوه قدامة الصحابي البدري يشرب الخمر ولكنه اخو زوجة عمر بن الخطاب، وقد أرسله عمر الى احدى الولايات، فانكب على معاقرة الخمر هناك ـ مثلما فعل الوليد بن عقبة ـ فاضطر عمر الى جلده. هذا الرجل كان من البدريين.
كانت هذه أمثلة لأشخاص شهدوا بدراً. فهل نستطيع بعدما ذكرنا من مواقفهم ان تقول بأن جميع من شهدوا معركة بدر عدول؟! فان كانوا عدولاً فلماذا يُجلدون؟ ولماذا تصدر من بعضهم مواقف خيانية؟ ولماذا يعلن الله غضبه على حاطب في اول سورة الممتحنة ويقول:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ * إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ * لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾( ). وقد ذكر الله عز وجل هذه الجملة مقرونة بأداة الشرط “إن”؛ أي انهم لم يهاجروا كلهم في سبيل الله، وانّما كانت في قلوب قسم منهم مآرب اخرى. وقد كشف الله ذلك بقوله: تسرّون اليهم بالمودّة، وأنا اعلم بما اخفيتم وما أعلنتم. ومن يفعل ذلك فقد ضلّ. ويتفق الجميع على ان هذه الآية نزلت في حاطب بن بلتعة. اذاً فان كان بين الصحابة مثل هؤلاء الاشخاص فهل يجوز لنا أخذ ديننا وأحاديثنا عن أمثال هؤلاء الذين أراد احدهم ان يقضي على الاسلام وعلى النبي بواسطة تلك الرسالة التي بعثها الى مشركي مكّة؟!
هناك في كتاب البخاري رواية مفادها ان جرى الحديث أمام عائشة عن أحد البدريين، فشتمته عائشة، فقيل لها: “بئس ما قلت، تسبّين رجلاً شهد بدراً” فذكرت قول أهل الإفك. أي قالت ان بعض البدريين من قالوا بالإفك، وهو اتهام احدى نساء النبي بالزنا، وهذه القضية أشارت اليها الآية 11 من سورة النور، حيث قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْأِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾. فهؤلاء ـ بناءً على ما نقله البخاري ـ من البدريين، وقد اقترفوا اثماً عظيماً، ووصفهم الله بالآثمين، ووعد في قرآنه الكريم بالعذاب العظيم لبعضهم، حيث نصّت الآية المذكورة على ما يلي: ﴿وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾.
ذكرنا في اوائل البحث الآيات التي استدل بها البعض على اثبات عدالة جميع الصحابة، ومنها الآية الشريفة: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ﴾( ). واستدلوا على ذلك بالقول بأن كل من مع رسول الله اشداء على الكفار رحماء بينهم، ويكثرون من الصلاة، وكل هذه الصفات كناية عن العدالة. ولكن قيل في الرد على هذا الرأي بأن هناك معنيين محتملين في هذه الآية:
1ـ القيود التي تتضمّنها الآية الشريفة قيود توضيحية، وهو ما ينتهي الى التناقض مع سائر الآيات فيما لو قلنا بأن جميع الصحابة عدول بلا استثناء.
2ـ ان تكون هذه القيود احترازية، أي ان من يكون مع الرسول ينبغي ان تتجسد فيه هذه الصفات. اذاً فالذي لا تتوفر فيه هذه الصفات فهو ليس مع النبي في الحقيقة حتى وان كان في الظاهر معه، أي انه ليس من أصحابه. وهذا يعني بطبيعة الحال ان الصحابة الذين يفرون أمام الكفار ولا تراحم بينهم، خارجون من هذه الفئة. وقلنا بأننا اذا اخذنا بالاحتمال الأول فسيؤدي ذلك الى ايجاد تناقض في القرآن على النحو التالي وهو ان الله سبحانه وتعالى يقول هنا بأن أصحاب الرسول لا يفرون في المعركة، بينما يقول في موضع آخر بأن أصحاب رسول الله فرّوا في المعركة ولجأوا الى الجبال. ويقول هنا بأنهم يكثرون من الصلاة بينما يقول في موضع آخر بأنهم اذا رأوا تجارة تركوا الصلاة خلف النبي وهرعوا الى تلك التجارة، ويقول أيضاً في موضع آخر بأنهم اذا سيقوا الى الحرب فكأنّما يساقون الى الموت ويراد قبض ارواحهم. وفي ضوء ذلك فما هو المعنى المراد من الآية “اشداء على الكفار”؟
ومن جانب آخر لدينا روايات متواترة تفيد بأن بعض هؤلاء الصحابة قد سلوا سيوفهم على بعضهم وقتلوا الكثير من المسلمين مثلما فعل طلحة والزبير حيث فرّا أمام الكفار في معركة احد وفي معركة حنين، بينما ساروا تحت قيادة عائشة وهاجموا أهل البصرة وقتلوا الكثير من مسلمي البصرة الذين لم تكن لهم يد في مقتل
عثمان ولم يكن لهم علم بمقتله أصلاً. ثم ان كل الدماء التي اريقت ظلماً وعدواناً كانت على يد أمثال هؤلاء الصحابة الذين فروا من المعركة، وارتكبوا أفضع الجرائم وقاموا بأكبر فساد في الارض. فكم قتل معاوية من الناس الأبرياء؟! وكم قتل ولاة وأمراء معاوية من المسلمين. فقد ذبح بسر بن أرطأة طفلي عبيد الله بن العباس أمام عين امّهما فجنّت امهما. وقتل عمر بن سعد بن ابي وقاص ـ الذي كان من الصحابة ـ سيد شباب أهل الجنّة الحسين سبط الرسول، وقتل حتى طفله الرضيع. فكان جنكيز خان قائد المغول اكثر رحمة ورأفة منهم في مواضع كثيرة.
وفي ضوء ما ذكرناه كيف تصدق على أولئك الصحابة صفة ﴿رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾( )؟ والحقيقة هي انهم ما كانوا يتحلّون بأي من هذه الصفات. ولكي لا تكون هذه الآية في تعارض مع الآيات الأخرى ولا مع ما لدينا من المتواترات، فلابد ان نحمل القيود التي وردت في الآية الشريفة التي ذكرناها آنفاً، على محمل القيود الاحترازية. ولا بأس بأن نشير هنا الى ان بعض الصحابة قالوا بأنهم جلسوا مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ومشوا معه، وصلوا خلفه، وما شابه ذلك، واعتبروا ذلك منقبة لهم. ولكن الله عز وجل قال في رد هذا الوهم بأن من يكونون مع رسول الله “لا يفرون في المعركة ويتراحمون في ما بينهم”. وهذا ما كشفت عنه الآية 62 من سورة النور، والآية 29 من سورة الفتح.
وهنا نود ان نسلّط الضوء على هذا الموضوع من زاوية اخرى، وهو ان الحرف “مع” في قوله “والذين معه” يفيد معنيين؛ أحدهما بمعنى الوجود مثل وجود الله مع الناس حيث ان الله موجود مع كل الناس:
﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾( ).
والآخر بمعنى المناصرة والمؤازرة:
﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾( )، كأن أقول: انا معك ولستُ معه؛ أي انني اناصرك واعاضدك. والحرف “مع” في هذه الآية مشترك لفظي بين معنيين. فالذين كانوا يقولون نحن مع رسول الله، يقصدون انهم موجودون الى جانبه اينما ذهب. أما الشيء الذي يُعتبر منقبة ويدعو الى الفخر فهو المعية بالمعنى الثاني؛ أي مناصرة ومؤازرة رسول الله (صلوات الله عليه). وقد أراد الله تعالى في هذه الآية ان يكشف عن هذا التلابس ويزيل هذا الخلط وهو ان الوجود مع رسول الله شيء آخر غير مناصرته. وانصار رسول الله هم من لا يتركونه وحده في المعركة. وأما وجود الأبدان الى جانب الرسول فلا يُعتبر دليلاً على المناصرة، والمثال الواضح على ذلك هو قوله تعالى:
﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾.
فاذا كان المعنى هو الوجود والحضور فان الله موجود مع جميع الناس، ولا يقتصر وجوده على المحسنين، فهو تعالى موجود مع الفسّاق أيضاً. ولكن اذا اخذنا المعيّة بمعنى النصرة، فهو عز وجل مع المتقين ومع المحسنين فقط.
اذاً فليس كل معيّة فخراً ومنقبة. فمن يريد اغتيال الرسول، او يقوم بأعمال التجسس فهو أيضاً مع الرسول، وموجود الى جانبه، ولكن ليس في ذلك منقبة ولا مفخرة له.
اذاً لو اخذنا هذه المعية بمعنى الوجود فسيكون هناك تناقض، ولا يستقيم المعنى إلا اذا اخذنا المعيّة بالوجه الثاني منها وهو بمعنى النصرة والمؤازرة.
وهذه الآية واحدة من أهم الآيات التي يتخذ منها البعض، وخاصة الوهابيين، اداة للمناورة حيث ينبغي الالتفات الى ان المعنى سيكون على النحو التالي: ان اصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الذين معه اشداء على الكفار ورحماء بينهم… وهو ان قسماً من الصحابة كانوا يتحلّون بهذه الصفة.
وهناك آية اخرى من هذه الآيات وهي الآية الثامنة من سورة الحشر: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾. يفسر انصار عدالة جميع الصحابة هذه الآية على النحو التالي: كل من هاجروا مع رسول الله صادقون من غير استثناء. ولكن ينبغي الرد عليهم. بالقول بأن هذا الكلام يصح فيما لو ثبت ان هجرتهم جميعاً كانت لرضا الله؛ وذلك لأن الآية نصّت على انهم “يبتغون فضلاً من؛ الله ورضواناً”؛ أي الذين هاجروا لنيل رضا الله وليس لاغراض دنيوية. ولو عدنا الى الوراء وألقينا نظرة اخرى على سورة الممتحنة، نلاحظ ان الله عز وجل يوجّه الخطاب الى بعض المهاجرين مثل حاطب بالقول: ﴿إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي﴾.
اذاً يفهم من ذلك بأنه لم تكن كل هجرة في سبيل الله وانما هاجر البعض طلباً لاغراض دنيوية، ومنهم اولئك الذين فرّوا في غزوة احد وفي غزوة حنين، او اولئك الذين أدّى طمعهم في الغنائم في معركة احد الى هزيمة المسلمين، او الذين انسلّوا من صلاة الجمعة عند سماع طبول التجارة. وقد ورد في روايات متواترة( ) عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) انّه قال بأن كل امرء ينال ما هاجر من اجله؛ فإن كانت هجرته من اجل الآخرة فسينالها، ومن كانت هجرته للدنيا فهجرته الى ما هاجر إليه. أي انهم لم يهاجروا كلهم في سبيل الله، وانما هاجر قسم منهم في سبيل الله فيما هاجر آخرون طلباً للدنيا. وجاء أيضاً في سياق تلك الآية ما يلي: “ينصرون الله ورسوله”. وهناك نقاش أيضاً في صغرى هذه القضية، وهو هل يمكن ان يوصف الذين فرّوا عند الخطر وحضروا حين تقسيم الغنائم بأنهم ينصرون الله ورسوله.
وبالاضافة الى ذلك فقد لاحظنا في سورة آل عمران بأن الله خاطب هؤلاء المقاتلين الذين شهدوا معركة احد بالقول: ﴿مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ﴾، فهل من جاء ليصيب شيئاً من الدنيا او ليقوم بعمل تجسسي ضد المسلمين، يمكن ان يوصف ب ـ “ينصرون الله”، أم انه جاء لنيل حاجة دنيوية؟!
اذاً فهذا القيد “يبتغون” قيد احترازي؛ أي ان هؤلاء المهاجرين صادقون بشرط ان يكونوا قد هاجروا في سبيل الله أولاً، وان يكونوا قد نصروا الله ورسوله حقاً وحقيقة ولم يفرّوا. واذا كانت هذه الآية دالة على عدالة وصدق جميع المهاجرين، فانها تقع على طرف نقيض مع الآيات الاخرى، ومع السُنّة المتواترة؛ لأن الصحابة كان فيهم المنافقون والفاسقون.
اذاً هذه الآية لا تدل على صدق جميع المهاجرين، وانما جاءت في مدح من لم يفرّوا ولتبيّن بأن هؤلاء هم الصادقون. والصادقون حقاً هم من هاجروا لله واستقاموا حتّى النهاية، ونصروا الله ورسوله في المواطن الضرورية: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا﴾ .
والآية الاخرى التي يستدلون بها وسبق ان ذكرناها هي الآية 100 من سورة التوبة وهي: ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ…﴾.
ولو اردنا ان نأخذ كلمة “الاولون” بانّها مجرّد تفسير توضيحي لكلمة “السابقون” فسيكون ذلك لغواً، في حين ينبغي القول بأن الله اراد هدفاً معيّناً من خلال الإتيان بهذا القيد، وهو ان هذا القيد قيد احترازي والمراد هو الاولون من السابقين. وهذا هو المعنى الصحيح للآية. ومعنى هذا ان الاوائل من سابقي الصحابة صالحون مطلقاً من غير قيد أو شرط، ولكن بقية السابقين وسائر الناس صالحون بشرط اتباع اوائل السابقين، أي اتباع أول رجل وأول امرأة من المهاجرين والأنصار، وليس الثاني و….
وفي ضوء ما سبق ذكره فان هذه الآية لا تدل على عدالة جميع الصحابة، وانما تدل على عدالة أَوَّلي المسلمين.
اذاً اولو المسلمين، مرضيون مطلقاً عند الله وهم اهل الجنّة والآخرون بشرط الاتباع للاولين.
نتناول في الفصل التالي بيان معنى كلمة “الأوّلون” بشكل اكثر تفصيلاً.
من هم أَوَّلُ المسلمين؟
نصت الآية 100 من سورة التوبة على ما يلي:
﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾.
أول المسلمين من الرجال علي( )، ومن النساء خديجة( )، وهما من المهاجرين طبعاً. وأما من الأنصار فأولهم اسلاماً اسعد بن زرارة وذكوان. ويريد تعالى ان يبيّن في هذه الآية ان هؤلاء مرضيون عند الله بمطلق القول. وكذلك من يتّبعون الاولين باحسان فهم مرضيّون عند الله أيضاً. أي ان المجموعة الثانية يرضى عنها الله أيضاً ولكن بشرط أن تتبع المسلمين الأولين باحسان: ﴿وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ﴾. أي على جميع الصحابة اتّباعهم. وقد وردت هذه الآية في سورة التوبة التي يرى البعض انها آخر سورة نزلت من القرآن، ولكنها في الواقع من اواخر السور. عندما نزلت سورة التوبة في اواخر حياة النبي، كانت خديجة قد توفيت، ولم يبق من المهاجرين الاوائل الا علي، وأما من اوائل المسلمين من الانصار، فهو اسعد بن زرارة الذي كان قد توفّي في السنة الاولى للهجرة). ومن بعد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لم يبق من هؤلاء الثلاثة الاوائل من المسلمين الا علي.
اذاً فالنتيجة التي تُفهم من هذه الآية هي انّه يا ايها المسلمون إِتَّبِعوا علي بن ابي طالب؛ لأنّه عدا الاولين، يشترط في من يريدون دخول الجنّة ونيل رضا الله ان يكونوا “اتبعوهم باحسان”. وعلى هذا الأساس فالمسلمون على صنفين:
1ـ الأولون وهم القادة والأئمة.
2ـ سائر المسلمين وهم تبع لهم، وينحصر ذلك في من يتّبعونهم باحسان وهم اتباع علي بن أبي طالب. ولكن هل كانت عائشة او كان طلحة والزبير ومعاوية تبعاً صالحاً وحسناً لعلي اول المسلمين؟
القرآن ومجهولية اكثر المنافقين:
وبعد ان اتضح لدينا بأنه كان هناك بين الصحابة منافقون حتى قبل الهجرة، فالسؤال الذي يتبادر الى الأذهان هو: هل كان كل المنافقين معروفون أم لا؟ قال تعالى في الآية 101 من سورة التوبة: ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ﴾ أي ان من اهل المدينة من تمرّسوا على النفاق واتقنوه الى درجة انك ايها الرسول مع ما لديك من مقدرة عقلية، لم تستطع معرفة نفاقهم ولم تعلم بانهم منافقون، وان الله فقط يعلمهم “لا تعلمهم نحن نعلمهم”.
وهذه القضية “قضية مجهولية الكثير من المنافقين” على درجة كبيرة من الأهمية، وسبب أهميتها هو ان البعض يزعم بأن المنافقين كانوا معروفين، واذا عزلناهم جانباً يبقى الصحابة الآخرون كلهم عدول ويمكن الوثوق باقوالهم، بينما تقول الآية 101 من سورة التوبة بأن هذا الكلام غير صحيح بل ان الكثير من منافقي المدينة الذين كانوا ملتفّين حول رسول الله (صلوات الله عليه) كانوا مجهولين وكانوا يتقنون النفاق الى درجة ان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الذي كان اعقل الناس، استعصت عليه معرفتهم ولم يلتفت الى نفاقهم. وهذا يعني ان بقيّة الناس بطريق اولى لم يعرفوهم وبالنتيجة فقد صدّقوا رواياتهم. أي انهم اذا نقلوا حديثاً عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان بقية الصحابة وسائر الناس يصدّقونهم حتى وان كان ذلك الحديث موضوعاً أو كاذباً.
وأما بالنسبة الى تمرّسهم في النفاق ومهارتهم فيه، فيُعزى الى ان النفاق على نوعين:
احدهما: نفاق سطحي يمكن كشفه بسهولة من لحن القول ومن اعمال الفرد وسلوكه وكلامه، ولا تستعصي معرفة هذا النوع من النفاق.
والآخر: نفاق عميق كأن يتخفّى المرء وراء سبعة حجب ـ كما يُقال ـ ثم يأكل الخبز والخل لكي يُهيّء الأجواء للوصول الى مآربه كالرئاسة مثلاً، ويحاول مثل هذا المنافق ان لا يكشف عن ذاته ولو مستقبلاً. وجملة “مردوا على النفاق” تعني هذا النوع من النفاق.
يقول الله تعالى ايها النبي انهم انغمسوا في النفاق الى درجة انك مع ما لديك من عقل ومعرفة وذكاء، تعجز عن معرفتهم؛ أي يُظن في الظاهر بأنهم على ايمان كامل ولا يظن احد منهم النفاق وحتى النبي نفسه ما كان يعلم نفاقهم. وهذه الآية تكشف صراحة عن وجود منافقين كان يُظن بأنهم مؤمنين حقيقيين.
وهناك شاهد آخر يبرهن على ان الكثير من المنافقين الفاعلين كانوا غير معروفين، ولهذا هدد الله بفضحهم في معركة الاحزاب:
﴿لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلاً﴾( ).
يقول الله تعالى في هذه الآية بأن المنافقين اذا لم يكفّوا عن اثارة الفتن التي تعصف بالمدينة فسوف نكشف عنهم ونفضحهم لكي لا يتمكنوا من مجاورة الرسول. أي انهم لازالوا مجهولين لدى الناس ويعيشون الى جوار رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ولو عرفهم الناس لقطّعوهم ارباً ارباً.
وهناك شاهد آخر يثبت عدم معرفة المسلمين بهؤلاء المنافقين، وهو قوله تعالى: ﴿وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ﴾( ). وهذا يعني ان الرسول لم يكن يعرفهم، فما بالك بالناس العاديين. فهذه الآية تبيّن صراحة بأن المنافقين كانوا مجهولين. وفي ضوء كل هذه الآيات كيف يتسنّى لهم القول بأنَّ المنافقين كانوا كلهم معرفون.
اما الفاسقون من الصحابة، فلو رجعنا الى كتب الحديث عند جميع المسلمين، ولاحظنا شأن نزول الآيات المتعلّقة بالحدود، مثل حد الزنا، وحد شرب الخمر، وما الى ذلك، لوجدنا ان اول من نزلت فيهم كانوا من الصحابة وقد اقيمت عليهم تلك الحدود. اذاً لو قلنا بأن جميع الصحابة كانوا عدولاً ولم يكن فيهم فاسق ولا منافق، فان في قولنا هذا مخالفة لصريح القرآن، ومخالفة للمتواترات من الاحاديث. ومن الطبيعي ان مثل هذا الاعتقاد بعدالة جميع الصحابة (حتّى المنافقين والفّساق منهم) يتعارض مع القرآن والسنّة المتواترة ويوجب الارتداد لأنه تكذيب لله ولرسوله.
ان القول بأن جميع الصحابة عدول وليس فيهم منافق ولا فاسق ينطوي على تكذيب القرآن الذي يصرّح بأنهم كان فيهم الفاسق والمنافق.
سبق ان نقلنا عن البعض قولهم بأن هناك دليل عقلي على عدالة جميع الصحابة وهو قولهم: “لو شككنا بعدالة بعض الصحابة لانقطعنا عن سنّة رسول الله” ثم نقلنا قول صاحب كتاب تهذيب التهذيب الذي أفرط في الرأي حين قال:
“الذين ينتقصون احداً من اصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يريدون ان يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسُنّة”. ثم عُرض نقض لهذا الاستدلال وهو أنه ثبت في القرآن والسنّة المتواترة بأن بعض الصحابة عدول وبعضهم فاسقون ومنافقون. ولهذا السبب لا يمكن القول بأن جميع الصحابة بلا استثناء عدول حتى اولئك الذين وصفهم القرآن والسنّة المتواترة بأنهم منافقون او فاسقون.
ونريد الآن ان نقول بأن القضية على العكس مما قاله صاحب تهذيب التهذيب لأنه الله تعالى قال بأن الصحابة فيهم الفاسق والمنافق، وفيهم العادل. وكذلك نصّت الاحاديث النبوية على هذا المعنى أيضاً. وكان الصحابة يعتقدون ازاء بعضهم الآخر بهذا الرأي نفسه وهو ان بعض الصحابة فاسقون ومنافقون، وليس هناك صحابي واحد يؤيد صحّة رأي تهذيب التهذيب. بل ان هذا الاعتقاد بـ”عدالة جميع الصحابة بدون استثناء” بدعة ابتدعها أنصار بني امية لاحقاً. ولم يكن في زمان الصحابة صحابي واحد يعتبر جميع الصحابة عدول بلا استثناء؛ ولهذا السبب فقد كانوا يتحاربون ويُفسّق بعضهم الآخر، ويقتل بعضهم الآخر.
وعلى العموم يمكن القول بأن الصحابة يجمعون على عكس ما ذهب إليه أمثال( ) صاحب تهذيب التهذيب. والنتيجة التي نريد التوصّل اليها تقع على طرف نقيض من كلام تهذيب التهذيب، وهي لو ان مؤلف هذا الكتاب التفت الى ما يعنيه كلامه، وما الذي يستلزمه قوله بان “جميع الصحابة عدول بلا استثناء”، لكان هو نفسه مرتداً. فلو التفت مؤلف تهذيب التهذيب لعلم ان كلامه هذا يعني تكذيب الله ورسوله، ومن البديهي ان كل من يكذّب الله ورسوله فهو مرتد. ولكننا نقول عسى ان يكون انصار “عدالة جميع الصحابة بلا استثناء” قد قالوا هذا الكلام جهلاً.
اذاً فالقضية على العكس مما قال به مؤلف تهذيب التهذيب حين قال بأن من يشك في عدالة بعض الصحابة مرتد. ولكن واقع الحال عكس ذلك؛ أي ان من يقول بعدالة جميع الصحابة وينكر وجود المنافقين والفاسقين بينهم، ويلتفت الى ان القول بأن جميع الصحابة عدول بلا استثناء، ينطوي على تكذيب “لله الذي صرّح بفسق الوليد بن عقبة، ولا يعتبر المنافقين من الصحابة عدول”، فهو في الواقع مرتد.
هل كان المنافقون كثيرين بين الصحابة؟
من الافضل هنا ان نرى ما يقوله القرآن. فقد ورد في القرآن الكريم ما يلي: ﴿مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾( ). يقول البعض احياناً بأن المنافقين لم تكن تُطلق عليهم تسمية المؤمنين. ولكن القرآن يُسمّي المنافقين مؤمنين أحياناً، وذلك لأنهم في الظاهر مؤمنين. يقول الله تعالى في هذه الآية اننا لا نترك المؤمنين على ما هم عليه ولا نقبل ايمانهم بسهولة، بل نختبرهم ونبلوهم ليُعلم الخبيث من الطيب. والطيب من يكون على ايمان خالص لا تشوبه شائبة، والخبيث يراد به المنافق ومن في قلبه مرض.
اذاً الآية 179 من سورة البقرة تقول ان هناك بين الصحابة من هو طيب، وهناك من هو خبيث ومنافق. ثم تأتي الآية 100 من سورة المائدة لتقول: ﴿قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ…﴾ ايها الرسول لا يستوي عندي الخبيث والطيب، وان كانت كثرة الخبيث مدعاة لتعجّبك؛ أي ان الخبثاء بين المؤمنين في زمن الرسول (صلى الله عليه وسلم) كانوا من الكثرة بحيث حتى الرسول ـ صلوات الله عليه ـ كان يتعجّب من ذلك.
ومن الأدلة الاخرى على كثرة المنافقين وطلاب الدنيا بين الصحابة ما حصل في غزوة الأحزاب حيث ادت اشاعاتهم الى اثارة الهلع في نفوس أهل المدينة وكادت ان تدفعهم لاستسلام للعدو. وقد هددهم الله ان هم لم يسكتوا، فسيفضحهم للناس، حيث ورد في الآية 60 من سورة الاحزاب، ما يلي: ﴿لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلاً﴾.
الباب الثاني
الافتراض المسبق الثاني
«صحّة أحاديث الكتب الستّة. . . »
الرواة العدول والرواة المنافقون والفاسقون
خلاصة ما توصلنا إليه من القرآن الكريم حول “الصحابة” هو ان “الصحابة” لم يكونوا على نمط واحد. وبالنتيجة فان الروايات التي نقلها “الصحابة” ودوّن قسم منها في الكتب التي دُوّنت في القرنين الثاني والثالث، تُقسم الى مجاميع مختلفة:
1ـ مجموعة روايات الأقلية المؤمنة حقيقة؛ أي الصحابة العدول.
2ـ مجموعة روايات عدد من الصحابة الفاسقين والظالمين.
3ـ مجموعة روايات اكثرية الصحابة وهم أهل الدنيا، الذين تركوا رسول الله وحيداً في غزوتي أحد وحنين عند مواجهة الخطر، وتركوا رسول الله وحده قائماً في صلاة الجمعة عند سماع صوت اللهو والتجارة. وتوجّهوا من بعد رسول الله الى حيث ما كانت مصالحهم الدنيوية، وسكتوا أمام البدع وامام الظالمين، أو وضعوا الاحاديث لصالح الظلمة لقاء الحصول على المال، ونسبوا تلك الاحاديث الى رسول الله، أو اراقوا دماء الابرياء.
وهذا التقسيم الثلاثي للصحابة وأحاديثهم ينطبق على الاحاديث التي نسبوها الى رسول الله في السنوات الاولى بعد وفاته وفي منتصف القرن الأول.
اما دور السلاطين في نقل الاحاديث ووضعها وتدوين كتب الحديث والتاريخ:
من ذا الذي يستطيع إنكار دور السلاطين في الترويج لمذهب معيّن او تمجيد وتعظيم شخصية، واسدال ستار النسيان على شخصية اخرى؟ نذكر على سبيل المثال ان بني هاشم كانوا هم الحُماة الوحيدون لرسول الله في شعب ابي طالب، وكان علي في كل ليلة يستبدل مكانه بمكان رسول الله، ويضع سيفه الى جانبه مجرّداً لكي يُقتل فداءً لرسول الله فيما لو اغار عليه المشركون ليلاً وارادوا قتله، هذا في ما يتعلّق بعهد ما قبل الهجرة. وأما بعد الهجرة، فمتى ما شعر المسلمون بالهزيمة وتركوا الرسول بين ايدي الاعداء العُتاة، مثلما حصل في غزوتي أحد وحنين، كان علي والحمزة من بني هاشم فقط هما اللذان ثبتا من القرشيين في ساحة المعركة، وجعلا من انفسهما درعاً له ويصدّا عنه سهام الاعداء ومن الانصار سبعة او تسعة.
وكان معاوية في جيش الشرك الى جانب ابيه ابي سفيان يشاهد مآثر علي في جيش الاسلام، وكان معاوية قد رأى بأم عينه قبل ذلك مقتل اخيه وخاله وجدّه المشركين على يد عليّ وبني هاشم في معركة بدر الكبرى. ولكن بقي معاوية وابو سفيان وسائر بني امية مصرّون في غزوة الاحزاب وغيرها على عدائهم لله ولرسوله، الى ان شاهدوا على حين غرّة ان موطنهم مكة قد حوصر تماماً من قبل رسول الله، وخضع له، وانهم سيقتلون ان لم يُعلنوا اسلامهم، فاضطروا الى التظاهر بالاسلام.
وبعد ان تمكنوا ـ بعد رسول الله ـ من حكم الشام، وصار اولاد ابي سفيان ولاة على الشام ابتداءً بيزيد بن ابي سفيان، ومن بعده معاوية بن ابي سفيان، ومن بعد ابي بكر وعمر حين آلت الخلافة الى عثمان بن عفان الاموي، أضحت كل بلاد المسلمين بيد بني امية، غير ان حكومة عثمان الاموي سقطت بسبب دعمه غير المحدود لأقاربه. وعادت خلافة المسلمين الى علي بن ابي طالب من بني هاشم.
وأما “معاوية” الذي شاهد من قبل تضحيات علي في غزوات رسول الله، ووصايا رسول الله بعلي وعترته، فقد شهر سيف الانتقام ضد الاسلام وضد قائد المسلمين علي بن ابي طالب تحت ذريعة الانتقام لدم عثمان (الذي لم يكن لعلي أي يد في قتله وانما كانت عائشة هي التي أمرت بقتله وكان معاوية قد تهاون في نصرته) وخرج معاوية عن طاعة الامام المفترض الطاعة، ولم يرحم حتى الاطفال، بل ذبح قائده الصحابيُ بسر بن أرطأة، طفلي عبيد الله بن العباس أمام عيني امهما مما ادى بها الى الجنون.
ورغم ان معاوية بن ابي سفيان كان قد سمع من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قوله بأن بغض( ) علي بن ابي طالب علامة النفاق، فانه كان يظهر بغضه لعلي، وقد قاتل علياً( ) وأمر بسبّه في صلاة الجمعة. وبعد استشهاد علي بن ابي طالب وتسلط معاوية على العالم الاسلامي، أمر ان يُسب على منابر صلاة الجمعة أوّلَ القوم اسلاماً واكثرهم فداءً لرسول الله (صلى الله عليه وسلم)، واقدم على قتل ابناء واصحاب علي بن ابي طالب؛ فقد سمّ معاوية أحد سبطي رسول الله وأحد سيدي شباب أهل الجنّة( ) وهو الحسن بن علي، ثم قتل أصحاب علي مثل حجر بن عدي ذلك الصحابي الجليل العابد الزاهد وصحبه، لا لجرم اقترفوه وانّما لأنهم كانوا من الموالين لعلي بن ابي طالب ولأنّهم امتنعوا عن سبّه، ثم قتل ميثم التمار وسائر أصحاب علي، من اجل التمهيد لكي يستخلف على المسلمين من بعده ابنه يزيد شارب الخمر والزاني بالمحارم.
وبعدما تسلّط يزيد على رقاب المسلمين سار فيهم بسيرة أبيه، ولما قام سبط رسول الله الحسين بن علي للأمر بالمعروف والنهي عن منكر يزيد، وثار ضد ظلم وفسق وفجور يزيد، لم يتورّع يزيد بن معاوية عن قتل الحسين بن علي وسائر أهل بيته وهم أهل بيت رسول الله الذين قدموا برفقة الحسين نحو الكوفة. وقتل حتى الطفل الرضيع وصرّح انه ثأر من بني هاشم لدماء اجداده واقاربه الذين قتلوا في بدر.
وبعد مقتل الحسين سيّر يزيد جيشاً بقيادة مسلم بن عقبة الى المدينة فقتل من قتل من أهلها واستباحها لجيشه ثلاثة أيام ليفعلوا ما يشاءون بأموال الناس وأرواحهم واعراضهم( ).
ثم هجم جيش “يزيد” على مكّة، واحرق أستار بيت الله وارتكب الكثير من الاعمال الشنيعة. وسار خلفاء يزيد من بني أمية من الشق المرواني على هذا النهج الذي اختطه معاوية ويزيد فى قتل أئمة العترة وأهل البيت وموالي علي بن ابي طالب، واستمر في لعن علي من فوق منابر صلاة الجمعة.
سؤال: فمن الذي كان يجرأ في مثل تلك الظروف على ذكر مناقب علي بن ابي طالب وعترة الرسول؟ إلاّ ان يكون قد وطّن نفسه على الموت. وهكذا فقد أُسدل ستار النسيان غالباً على الأحاديث النبوية التي وردت في فضائل علي بن ابي طالب. بل حصل على العكس من ذلك، إذ كان بنو أمية يميلون الى عثمان بسبب نسبه الأموي، ورغم ان عثمان قُتل على يد المصريين بالتعاون مع أصحاب رسول الله، ولم يدفن الصحابة جثة عثمان ثلاثة أيام، الى ان جاء اقارب عثمان من بني أمية ودفنوه في حش الكوكب وهو مقبرة لليهود؛ لأن أصحاب رسول الله لم يسمحوا بدفنه في مقبرة المسلمين، لأنهم لم يعتبروه مسلماً، اذ ان دفن المسلم من الأمور المسلّم بها في الإسلام. ولكن بعد مضي قرن من تسلط سلاطين وحكام بني امية على المسلمين وما قاموا به من دعايات واسعة، اختلقوا لعثمان بن عفان الكثير من المناقب والفضائل التي لو صحّت واحدة منها فقط وكان قد سمع بها أصحاب رسول الله، لما اقدموا على قتله قط، أو كانوا قد أذنوا على الاقل بدفنه في مقبرة المسلمين.
ان احاديث الفضائل التي وضعوها لعثمان تتناقض نوعياً مع سيرته في عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ومنها ان عثمان فرّ في غزوة أُحد( )، وبقي متخفياً خلف الجبال ثلاثة أيام الى ان تأكد بأن المعركة قد انتهت كليّاً ولم يعد هناك ثمة خطر يتهدده( )، أو انه لم يشهد غزوة بدر، ولم يبايع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في بيعة الشجرة. حيث اخذ موالوه يضعون الأحاديث التي يبررون بها مواقفه هذه.
وعلى اية حال فان عثمان الاموي بما كانت له من هذه المواقف في أيام رسول الله، وما فعله بعد أن آلت إليه الخلافة من تعطيل احكام الله ونهب المال على يد أقاربه وتسليط اخيه الوليد بن عقبة شارب الخمر على الكوفة، واخيه في الرضاعة عبد الله بن ابي سرح ـ الذي ارتد في زمان رسول الله ـ على مصر، وقتله المصريين ظلماً وعدواناً، وغير ذلك من الاعمال والمواقف، تحوّل عثمان الاموي ـ بعد قرن من تسلط بني امية على السلطة والحكم ـ الى صاحب فضائل مختلقة، بينما نُسيت معظم الفضائل الحقيقية لعلي بن ابي طالب.
وعلى صعيد آخر، بعد قرن من حكم خصوم علي بن ابي طالب، تربى الجيل الجديد على افكار المخالفين لعلي بن ابي طالب، وعلى فضائل عثمان الموضوعة وعلى فضائل من جاءوا بعثمان الى سدّة الحكم. وكان كُتاب “الكتب الستّة” من هذا الجيل الذي تربّى في ظل العهد الأموي، او كان آباؤهم واساتذتهم ممن تربّوا في ظل ذلك العهد.
تأليف الكتب في القرن الثاني و…:
وأما بالنسبة الى الأحاديث التي نسبوها في القرن الثاني الى رسول الله، فقد كان معظمها من اختلاق التابعين، وهذه الاحاديث الموضوعة نوعياً يقرب عددها من المليون حديث. وبالنتيجة فان الكتب التي دوّنت في القرنين الثاني والثالث مثل كتاب مالك، وابي حنيفة، والشافعي، واحمد بن حنبل، والبخاري، ومسلم، والترمذي، وابي داوود، وابن ماجه، خرجت من هذه الأكداس من الاحاديث التي تم اختلاق معظمها على يد التابعين الذين كانوا يميلون الى بني امية، ولم يهتم الا القليل النادر منهم برواية الاحاديث التي رواها الصحابة حقيقة. ولا تكاد تمثل أحاديث التي وردت في هذه الكتب عن الصحابة العدول بالقياس الى احاديث المنافقين المجهولين واكثرية أهل الدنيا من الصحابة الاّ قطرة من بحر. حيث دأب كل مؤلف ـ في القرنين الثاني والثالث ـ وفقاً لميوله ومذهبه، الى فرز مجموعة من الاحاديث واطلق عليها تسمية الصحيح، مثل كتاب صحيح البخاري، وصحيح مسلم، وغيرها، وكذلك سنن ابي داوود، وسنن ابن ماجة، وبقية السنن والمسانيد، وغيرها. ومشكلة “هذه الكتب التي دوّنت في القرنين الثاني والثالث” أدهى واعظم؛ وذلك لأنه جرى تقسيم الروايات التي نقلت عن الصحابة حقاً بعد رسول الله وفقاً للمجاميع المختلفة من الصحابة، فكانت روايات الصحابة العدول، وروايات الصحابة المنافقين والفاسقين وأهل الدنيا.
وبعد مضي قرن، حيث لم يعد بامكان أحد من الناس الذين عاشوا في القرن الثاني والثالث ان يسألوا رسول الله أو العدول من أصحابه حول مدى صحّة تلك الاحاديث، وجدوا انفسهم عند ذلك مضطرين الى اخذ الأحاديث عن التابعين أو عن تابعي التابعين. وبالنتيجة فقد كانت هناك أهمية بالغة لعدالة او نفاق هؤلاء التابعين الذين نقلوا أحاديث رسول الله الى مؤلّفي هذه الكتب؛ لأنه كان من الممكن ان يكون هناك منافقون مجهولون بين التابعين نسبوا كذباً أحاديث الى الصحابة العدول وصدّقها الناس وقبلوها منهم بدون الانتباه الى ان هذا الراوي التابعي من المنافقين المجهولين،
وانه ينسب كذباً هذا الحديث الموضوع الى عدول الصحابة من امثال سلمان وابي ذر والمقداد وغيرهم، بمجرّد ان يسمعوهم يقولون بأن حذيفة او سلمان او غيرهما نقل عن رسول الله كذا وكذا.
ولهذا السبب بلغ عدد الاحاديث في القرن الثاني عند تأليف الكتب الأولى ما يقارب المليون حديث، وقد نقل منها البخاري ومسلم واصحاب السنن والمسانيد ما يوافق ميلهم ومذهبهم. نذكر على سبيل المثال ان البخاري ومسلم واصحاب السنن والمسانيد نقلوا احاديث حتى عن مبغضي علي بن ابي طالب الذين يعتبرون من المنافقين بشهادة رسول الله (لا يحب علياً الاّ مؤمن ولا يبغضه الاّ منافق)، كما فعلوا حين نقلوا (كما فعل البخاري) عن رئيس الخوارج عمران بن حطان الذي مدح عبد الرحمن بن ملجم قاتل علي، او حين نقلوا عن اسحاق بن سويد العدوي الذي كان يقول صراحة اني ابغض علي بن ابي طالب، وكان يكثر من ذم علي رغم قول رسول الله: “يا علي لا يحبّك الاّ مؤمن ولا يبغضك إلاّ منافق” ( )، او حين نقلوا عن حريز بن عثمان الذي لم يكن يخرج من المسجد الا بعد ان يلعن علي بن ابي طالب سبعين مرّة، أو حين نقلوا عن سمرة بن جندب الذي كان يبيع الخمر و…( )، أو حين نقلوا عن عبد الرحمن بن ابراهيم المشهور بدحيم الشامي مبغض علي، أو حين نقلوا عن عكرمة ومعاوية ابن ابي سفيان الباغي على الامام المفترض الطاعة وقاتل عمّار، وقاتل طفلي عبيد الله بن العبّاس، وغيرهم من الرواة الآخرين الذين كان من مشاهير مبغضي علي وكانوا يلعنونه على الدوام. وأما بقية الرواة الذين نقلت عنهم هذه الكتب فقد كانوا غالباً من مبغضي علي بن ابي طالب او من اعوان الظلمة وتاركي الامر بالمعروف والنهي عن المنكر في فسق يزيد وظلمه وظلم بن امية وفسقهم؛ أي ان هذه الرواة لم يكونوا عدولاً.
نقل مسلم في باب الامارة انه حتى ابن عم معاوية وهو عبد الله بن عمرو بن العاص لم يستطع ان ينكر ظلم معاوية وفسقه وفجوره العلني عند جوابه لسائل سأله امام الملأ العام، عن الداعي الذي يدعوهم لاطاعة معاوية الذي يأمرهم بأكل الحرام واراقة الدم الحرام.
والمثير للانتباه في هذا السياق هو ان كل واحد من اصحاب هذه الكتب، اثنى على كتابه ووصف بقية الكتب بانّها ضعيفة وغير معتبرة. نذكر على سبيل المثال ان احمد بن حنبل (المتوفى في القرن الثالث، في عام 241هـ) نقل في مسنده “ثلاثين ألف حديث” اختارها من بين سبعمائة ألف حديث وفقاً لميوله ومذهبه. أي انه اعتبر ثلاثين الف حديث فقط. في حين اعتبر البخاري (المتوفى في القرن الثالث؛ في عام 256هـ) اكثر أحاديث احمد بن حنبل غير صحيحة، واورد في كتابه ما مجموعه “ألفي حديث” من غير تكرار، أي ما مجموعه واحد من خمسة عشر من أحاديث مسند احمد. وهذا يعني ان البخاري اختار اقل من واحد من كل ثلاثمائة من الاحاديث التي كانت موجودة حينذاك (يعني من مليون حديث). ولم يكن هذا الاختيار بناءً على كونها احاديث صحيحة، فالكثير من هذه الاحاديث التي اختارها البخاري تتعارض مع بعضها ومع القرآن، وبالنتيجة فهي اكثرها احاديث مكذوبة، وانما اختارها البخاري لأنها تتطابق مع مذهبه. واعتبرها احاديث صحيحة (أي انها كانت تنسجم مع مذهب آبائه).
والشاهد على ذلك انه نقل ابن عبد البر في كتاب الانتقاء ان البخاري يعتبر أبا حنيفة باطلاً وضالاً، ويعتبر في كتابه أَنّ القياس ضلالة.
واعتبر “البخاري” في كتاب تاريخه الكبير “الشافعي” ضعيفاً وغير معتبر.
وجُلد “احمد بن حنبل” من قبل السلطان بسبب نقله احاديث كاذبة. والاحاديث المتعارضة والمتكاذبة والموضوعة (في مسند احمد اكثر من سائر الكتب).
مذاهب المسلمين:
ولا تنحصر فرق المسلمين بهذه الفرق الاربعة التي تسير وفقاً لأهواء السلاطين والولاة، وانّما هناك فرقة اخرى وهي التي تتبع ائمة العترة، مثل المذهب الجعفري. وبالاضافة الى الفرق الاربعة الاخرى وهي الحنبلية والحنفية والشافعية والمالكية يكون المجموع خمس فرق. ويوجد بين هذه الفرق الخمسة تضاد وتناقض شاسع، ومن غير الممكن ان تكون هذه الفرق الخمسة كلّها حقّة، لأن الحق واحد لا أكثر. ومن غير الممكن ان تكون الفرقة الحقّة من بين الفرق الاربعة: الحنبلية، والحنفية، والمالكية، والشافعية التي توجب طاعة السلطان والحاكم حتى وان كان جاهلاً بالدين وظالماً. في حين ان الله تعالى لم يوجب قط طاعة الجاهل والظالم، بل ان طاعة الظالم تتناقض مع طاعة الله لأن الله تعالى يأمر بالعدل والاحسان وينهى عن الظلم والفسق، بينما الظالم والفاسق يأمر بالظلم والفسوق.
اذاً هذه المذاهب الاربعة، وهي الحنبلي، والحنفي، والمالكي، والشافعي، التي تأمر بطاعة السلطان مطلقاً حتى وان لم يكن مستنبطاً للاحكام الصحيحة من الدين، وحتى ان كان ظالماً. فهذه المذاهب الاربعة تأمر بخلاف حكم الله، وهي فرق ضالة، اضافة الى ان هذه المذاهب الاربعة لا تتبع العترة الهادية التي أمر الله في حديث الثقلين باتباعها والتمسّك بها. والمذهب الجعفري هو المذهب الوحيد الذي يتمسك بأهل البيت ويتّبع الثقلين اللذين أمر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بالتمسّك بهما من بعده وهما القرآن والعترة، والعترة هي المبيّنة للسنّة الصحيحة بشهادة رسول الله.
اضافة الى كل ذلك لم يكن لأي من هذه المذاهب الاربعة: الحنبلي، والحنفي، والمالكي، والشافعي، أي وجود في القرن الأول حتى تكون طاعة احدها واجبة. واما القول بوجوب طاعة أحد هذه المذاهب الاربعة فهو من بدع القرنين الثاني والثالث. في حين ان الائمة من أهل البيت والعترة الهادية كانوا موجودين على الدوام وأوّلهم علي بن ابي طالب وثانيهم الحسن بن علي، وثالثهم الحسين بن علي (الذي ثار ضد فسق وفجور يزيد واستشهد في سبيل النهي عن المنكر) ومن بعد الحسين بن علي ابنه علي بن الحسين، ومن بعده ابنه الامام محمد بن علي المعروف بالباقر، ثم جعفر بن محمد المعروف بالامام الصادق. وهذان الإمامان (أعني الامام الباقر والامام الصادق) من ائمة العترة، وقد نقلا عن طريق علي بن الحسين بن ابي طالب، السُنّة الصحيحة لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) الى اتباعهم في القرن الثاني. وهذه هي الفرقة الوحيدة التي تنقل السنّة الحقيقية، وتتبع السنّة الحقيقية، وهي واجبة الاتّباع استناداً الى حديث الثقلين “كتاب الله وعترتي” الذي نقله مسلم والترمذي وآخرون متواتراً. وليس هناك في القرآن والسنّة دليل على وجوب طاعة أئمة المذاهب الاربعة التي تتبع السلاطين والولاة حتى فاسقهم وظالمهم.
وقد نقل مسلم (المتوفى في القرن الثالث؛ في عام 261هـ) وحده اربعة آلاف حديث لا تكرار فيها، أي ضِعف ما نقله البخاري (أي ان نصف أحاديث مسلم لا تعتبر عند البخاري حجّة). ويمكن القول بعبارة اخرى ان البخاري لم ينقل نصف أحاديث مسلم ولم يكن يعتبرها صحيحة. كما ان مسلم لم ينقل بعض أحاديث البخاري لانه يرى تلك الاحاديث كاذبة مثل حديث ابن عمر انه قال: كنا نخيّر بين الناس في زمن النبي (صلى الله عليه وسلم) فنخير ابا بكر ثم عمر بن الخطاب ثم عثمان. ولكن الكثير من احاديث البخاري نفسه ـ الذي نقل من الأحاديث أقل مما نقله الآخرون ـ تتعارض مع بعضها أو مع القرآن، او مع السنّة المتواترة. وهناك اكاذيب كثيرة في أحاديث البخاري.
وقد اكتفينا هنا بذكر هذه المقتطفات على سبيل المثال لا الحصر، وهذا غيض من فيض.
الاحاديث الكاذبة أو التحريفات والتناقضات
نستعرض في ما يلي نماذج من الاكاذيب والتناقضات التي تكتنف تلك الاحاديث:
1ـ رؤية الله: حديث: “سترون ربكم كما ترون هذا القمر”.
2ـ نزول الله من السماء الى الارض: ان الله ينزل في الثلث الأخير من كل ليلة من السماء الى الارض ويبقى على الارض حتى آذان الفجر، ثم يعود بعد ذلك الى السماء: “يتنـزّل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة الى سماء الدنيا” ( ).
وهاتان الروايتان كاذبتان طبعاً استناداً الى ما يلي:
أوّلاً: لم يلتفت البخاري الى ان الارض تدور حول الشمس، وان نصف الارض الآخر غير المقابل للشمس يكون ليلاً على الدوام، وان الليل يغطّي نصف الارض الى يوم القيامة، كما ان الثلث الاخير من الليل موجود على الدوام في قسم من الارض الى يوم القيامة. واذا كان الله ينزل من السماء ـ حسب ما يدّعي ـ ويمكث على الارض في الثلث الاخير من الليل، فهذا يعني انه يبقى على الارض الى يوم القيامة؛ وذلك لأن الليل والثلث الاخير من الليل موجود في قسم من الارض الى يوم القيامة، وانما يتبدّل موضعه حول الارض لا غير.
ثانياً: يقول القرآن الكريم: ﴿وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً﴾( )؛ أي ان الله محيط بكل شيء وليس محاطاً بحيث يُرى، أو ان يكون داخل الاشياء؛ لأن الله لا يحتاج الى مكان وانما هو موجود في كل مكان. ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾( ).
ثالثاً: اذا قلنا بأن الله في السماء أو في الارض، فذلك يعني انه غير موجود في مواضع اخرى.
رابعاً: اذا كان الله في العرش أو في الارض أو في أي موضع آخر، فذلك يعني انه يحتاج الى مكان. وان كان الأمر كذلك فأين كان قبل خلق المكان والعرش؟ وان لم يكن بحاجة الى مكان ـ كما يقول القرآن ـ فان القول بأن الله في كذا مكان يخالف القرآن.
وخلاصة الكلام هي ان هذه الأحاديث خلاف الواقع، وهي كاذبة قطعاً. وقد نقل البخاري ومسلم وامثالهما الكثير من الاكاذيب حول الله بل وحتى حول رسول الله (صلوات الله عليه)، وحول الصحابة. وهذه الاحاديث لا تنسجم مع بعضهما، بل انها متضاربة ومتعارضة ومتكاذبة.
3ـ العصمة: اورد البخاري في ابواب المناقب من كتابه حول عمر بن الخطّاب بأن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال لعمر:
يا ابن الخطّاب والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكاً فجاً قط الا سلك غير فجّك. وهذا الكلام يعني انك يا عمر معصوم.
بينما روى البخاري ومسلم وغيرهما ان عمر فرّ من ساحة المعركة في غزوة أحد وفي غزوة حنين، وترك الرسول وحده بين ايدي اولئك الاعداء الشرسين. وقد اعتبر الله في سورة آل عمران اولئك الفارّين بأنهم قد عصوا:
﴿وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ﴾( ).
وقال عنهم في موضع آخر:
﴿إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا﴾( ).
أي ان الله عز وجل يبيّن في هذه الآية بأن جميع اولئك الذين فرّوا انما اتبعوا سبيل الشيطان في حين ينقل البخاري ما يخالف كلام الله وهو ان عمر الذي كان بين الفارين( ) لم يتّبع سبيل الشيطان. وهو ينسب وهذه الاكذوبة المخالفة لكلام الله الى النبي. ومن الطبيعي ان الكذب على الله ورسوله من الكبائر، واذا جاء ذلك الكذب في شهر رمضان أبطل الصوم (فأين عدالة البخاري). ولهذا لا يمكن التعويل على قول البخاري لأنه كذب على الله ورسوله في كتاب أحاديثه كذبات كبرى. ومن المعروف ان قراءة ونقل هذه الأحاديث الكاذبة في شهر رمضان يبطل الصوم.
4ـ آمَنُ الناسِ: نقل البخاري في كتابه في فصل المناقب ان آمَنَ الناس عند رسول الله ابو بكر: “إنَّ آمَنَ الناس عليَّ في صحبته وماله أبا بكر” ( ). مع انه لم يثبت مع الرسول في غزوة أحد من قريش الا رجلان؛ أحدهما الحمزة سيد الشهداء، والآخر علي بن ابي طالب. وبعد شهادة الحمزة كان علي هو الرجل الوحيد من قريش الذي ثبت مع رسول الله ودافع عنه. ومن الانصار كان هناك سبعة أو تسعة رجال. وفي خيبر وحنين لم يثبت مع رسول الله إلاّ علي، وأما بقية الصحابة فقد فرّوا كلّهم( ).
وقبل الهجرة أيضاً بقي في شعب أبي طالب فقط، علي وجعفر وبنو هاشم وهم الذين دافعوا عن رسول الله. وأما بقية الصحابة فلم يذهبوا الى الشعب ولا ساعة واحدة. ولم يجلبوا لرسول الله ولبني هاشم تمرة واحدة رغم انهم شارفوا على الموت من شدّة الجوع. وبذلك فقد تعاونوا عملياً مع المشركين في محاصرة النبي. رغم ان بعض المشركين من اقارب خديجة مثل ابي البختري الذي كان يقدّم لبني هاشم كمية من التمر خفية.
ولهذا السبب عندما نزلت آية الخمس وجعل رسول الله سهماً منه لذوي القربى، اعترض عثمان الاموي على ذلك وقال: لماذا فضل الله بني هاشم علينا؟ فقال رسول الله: انهم لم يفارقوني في جاهلية ولا اسلام( ). أي انكم تركتموني في شعب أبي طالب وفي ساحة المعركة عند ظهور الخطر الجاد.
حديث أسماء: ولو غضضنا النظر عن كل هذه الامور، فان حديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حول اسماء بنت عميس يكفي، وهو ما نقله البخاري ومسلم وجاء في مناقب أسماء بنت عميس. فهي بعد ان رجعت من الحبشة مع زوجها جعفر بن ابي طالب (وكان ذلك في السنة السابعة للهجرة) كانت جالسة في دار حفصة بنت عمر بن الخطاب وتتحدثان، اذ دخل عمر على حفصة فوجد اسماء عندها. فقال عمر حين رأى أسماء: من هذه؟ قالت: أسماء بنت عميس. قال عمر: الحبشية هذه البحرية؟ فقالت اسماء: نعم. فقال عمر: سبقناكم بالهجرة، فنحن أحق برسول الله (صلى الله عليه وسلم) منكم، فغضبت وقالت: كلا والله، كنتم مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يطعم جائعكم ويعظ جاهلكم، وكنا في دار أو في ارض العدى البغضاء في الحبشة، وذلك في الله وفي رسوله (صلى الله عليه وسلم). وايم الله لا أطعم طعاماً ولا أشرب شراباً حتى اذكر ما قلت لرسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ونحن كُنا نُؤذى ونُخاف، فسأذكر ذلك لرسول الله (صلى الله عليه وسلم)، والله لا اكذب ولا ازيد على ذلك. فلمّا جاء النبي (صلى الله عليه وسلم) قالت: يانبي الله ان عمر قال كذا وكذا. فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): ما قلت؟ قالت: قلت كذا وكذا. فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): ليس بأحق بي منكم وله ولأصحابه هجرة واحدة، ولكم أهل السفينة هجرتان.
قصّة اسماء هذه نقلتها كتب الحديث في باب مناقب اسماء بنت عميس بشكل متواتر وحتى البخاري نفسه نقل هذا في “مناقب اسماء بنت عميس” وهو ان رسول الله قال لأسماء بنت عميس: انتم مهاجروا الحبشة افضل من عمر بن الخطاب واصحابه (واصحاب عمر من امثال ابي بكر وطلحة والزبير وغيرهم)، وانتم احق بي منهم؛ لانكم مهاجري الحبشة هاجرتم الى الحبشة هجرتين، واما عمر وأصحابه فقد هاجروا هجرة واحدة. فان كانت امرأة مثل اسماء بنت عميس وكل مهاجري الحبشة افضل من عمر واصحاب عمر واقرب منهم الى رسول الله، فكيف يمكن ان يقول رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن بعض من هاجروا هجرة واحدة (وتركوا الرسول وحده في شعب أبي طالب وفي ساحة المعركة): انت أفضل وآمَن ممن هاجروا هجرتين ولم يتركوني وحدي ولم يفروا عني؟!
المفارق للسلطان والمفارق لجماعة المسلمين:
5ـ حديث: من كره من اميره شيئاً فليصبر فانه من خرج من «السلطان” شبراً مات ميتة جاهلية( ).
6ـ حديث: من رأى من اميره شيئاً يكرهه فليصبر فانه من فارق «الجماعة» شبراً فمات الا مات ميتة جاهلية( ).
يقول في حديث “من رأى من اميره شيئاً” انه يجب الصبر على ما يراه من الامير من اشياء يكرهها، وينبغي ان لا يعترض عليها، لأن مفارقة السلطان مفارقة للاسلام. ومن يفارق اميره فيموت، فانه يموت ميتة جاهلية أي على غرار ميتة أهل الجاهلية حيث لم يكن الاسلام قد جاء وكان الناس كفاراً. أي ان معارضة السلطان توجب ارتداد وكفر كل من يعارضه: فانه من خرج من السلطان شبراً مات ميتة جاهلية.
واما الحديث الثاني: من رأى من اميره شيئاً…، فقد جاء على العكس من ذلك؛ لأنه يقول بأن كل من يرى من اميره شيئاً يكرهه يجب ان يصبر عليه، وذلك لأنَّ مفارقة جماعة المسلمين كفر، أي ان المرء اذا مات في مثل هذه الحالة أي حالة مفارقة جماعة المسلمين فانه يموت ميتة جاهلية، أي انه يموت كافراً: من فارق “الجماعة” شبراً فمات الا مات ميتة جاهلية.
وهذا يعني ان أحد هذين الحديثين يقول بأن مفارقة “السلطان” توجب الكفر، بينما يقول الحديث الآخر ان مفارقة “جماعة المسلمين” توجب الكفر، وليس مجرّد مفارقة السلطان، وذلك لأنه من الممكن ان تفارق جماعة المسلمين ـ مثلما حصل في عهد عثمان ـ السلطان وتعترض عليه. وفي الحديث الثاني اعتبر مفارقة جماعة المسلمين علّة مباشرة أو علّة اصلية للكفر، في حين اعتبر في الحديث الأوّل مفارقة السلطان علّة اصلية ومباشرة للكفر، سواء كانت مفارقة السلطان ملازمة لمفارقة جماعة المسلمين أو في معزل عنها.
وبالنتيجة في الوقت الذي تفارق فيه جماعة المسلمين السلطان وتعلن رفضها له او معارضتها لحكمه كما حصل في عهد عثمان “وفقاً للحديث الاول فان جماعة المسلمين من الصحابة هي التي كفرت وميتتها ميتة جاهلية؛ وذلك لأنه في الحديث الاول اعتبرت مفارقة السلطان نفسها سبباً أصلياً للكفر حتى وان كان المفارقون للسلطان هم جماعة المسلمين والصحابة الذين خاصموا عثمان فان ميتتهم جاهلية.
ـ واما عكس الحديث الثاني اعتبرت مفارقة جماعة المسلمين العلة الأصلية للكفر، حتى وان كان المفارق هو السلطان نفسه، فالسلطان نفسه يعتبر كافراً بسبب مفارقته لجماعة المسلمين وميتته ميتة جاهلية وان كان عثمان، بينما اذا فارقت جماعة المسلمين السلطان، مثلما حصل في عهد عثمان، حيث خرج المهاجرون والانصار على عثمان وخالفوه لأنه حكم بغير ما انزل الله، ولم يأخذ بسنّة رسول الله، وسلط اقاربه الفاسقين الظلمة على رقاب الناس، وقسّم اموال بيت المال بينهم( ). وفي عهد حكم الوليد( ) بن يزيد بن عبد الملك بن مروان، كان هذا السلطان يكثر من شرب الخمر، وزنا بمحارمه ـ كما فعل يزيد بن معاوية ـ وما الى ذلك من الافعال الشنيعة، ولم يستجب لنصائح من نصحوه ولم يكف عن تلك المحرّمات والفسق والفجور. فهجم عليه جماعة من المسلمين وعزلوه عن السلطة.
وطبقاً للحديث الأول فان هذه الجماعة من الصحابة والانصار الذين خرجوا على سلطانهم عثمان وفارقوه، وكذلك هذه الجماعة من المسلمين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر (الذين عزلوا الوليد بن يزيد بن عبد الملك عن السلطنة) كلاهما جماعتان كافرتان ومن اهل النار وميتتهما ميتة جاهلية، لأنهما خرجتا على سلطانهما. وكل من يخرج على السلطان يموت ميتة جاهلية.
ولكن طبقاً للحديث الثاني فان مفارقة جماعة المسلمين علّة أصلية ومباشرة للكفر. وبناءً على هذا الحديث فان عثمان بن عفان هو الذي فارق جماعة المسلمين وهو من أهل جهنم وقد مات ميتة جاهلية، وليس المهاجرون والانصار الذين خالفوه وازاحوه عن السلطة والحكم.
ولو قلنا بأن كلا حديثي البخاري صحيحان، فالنتيجة هي ان عثمان كافر ومن أهل النار لانه فارق جماعة المسلمين، وكذلك جماعة المهاجرين والانصار الذين خرجوا على سلطان زمانهم، فهم أيضاً كفار ومن اهل النار( ).
اضافة الى ذلك فان السلطان الظالم الذي يحكم بغير ما انزل الله كافر بنص الآية 44 من سورة المائدة، أي انه طاغوت ويجب الكفر به استناداً الى الآية 60 من سورة النساء.
ولهذا السبب ثارت عائشة ضد عثمان وامرت بقتله، حيث كانت قد قالت بأنَّ عثمان حكم بغير ما انزل الله ولم يعمل بسنّة رسول الله، اذاً فهو طاغوت وتجب مخالفته، فاقتلوه.
اليكم في ما يلي نص الآية 60 من سورة النساء:
﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً﴾ أي أن طاعة الطاغوت ـ وهو من يحكم بغير ما انزل الله ـ حرام والكفر به واجب.
وجاء في الآية 44 من سورة المائدة:
﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾.
والجدير بالذكر ان أبا بكر منع سهم ذوي القربى من الخمس( )، ولم يعط فاطمة سيّدة نساء أهل الجنّة، خمس خيبر. وهذا يعني انه لم يحكم بما انزل الله ـ سورة الانفال، الآية 41 ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ﴾ ويمكن الاطلاع على مزيد من المعلومات في هذا المجال عند الرجوع الى غزوة خيبر، وابواب الخمس.
وايضاً بعث ابو بكر خالد بن الوليد الى الصحابي العادل مالك ابن نويرة. وعندما دخل خالد بن الوليد على مالك، استسلم مالك مباشرة وقال سأعطيك الزكاة لتأخذها لأبي بكر، وقبل منه خالد ذلك. ولكن كانت لمالك امرأة جميلة ولما رآها خالد عمد الى قتل مالك وزنا بامرأته مباشرة. وقد اشتكى( ) بعض من كان معه ابي بكر فعل خالد وطالبوه باقامة حد زنا المحصنة عليه، والاقتصاص لدم مالك منه. ولكن ابا بكر (الذي كان يحب خالد كثيراً) عطل حد الزنا عنه، ولم يقده به.
ولكن في موضع آخر نلاحظ ان أبا بكر احرق مسلماً اسمه “فجاءة” في مقبرة البقيع لمجرّد انه اثار غضبه، مع العلم ان الحرق لم يكن هو الحد الشرعي له( ). فحكم يقيناً بغير ما انزل الله.
ولابد من الاشارة الى ان عمر بن الخطاب أرسل المغيرة بن شعبة (وكان من المقربين إليه) والياً على أحد المدن، فزنا المغيرة هناك بامرأة عاهرة اسمها “ام جميل”. وجاء اربعة من أهالي تلك المدينة الى عمر ليشهدوا عنده على زنا المغيرة، وقد شهد ثلاثة منهم بما رأوا.
فشق على عمر حين شهد هؤلاء الثلاثة.
وكما ورد في كتاب كنز العمال فانه لمّا شهد هؤلاء الثلاثة وهم ابو بكرة (مولى رسول الله) ونافع وشبل بزنا المغيرة بن شعبة (والي عمر)، شق على عمر ذلك.
وقال ابو الفرج الاصفهاني في هذا المجال انه لما شهد الشاهد الاول عند عمر تغيّر لذلك وجه عمر، ثم جاء الثاني فشهد فانكسر لذلك انكساراً شديداً، ثم جاء الثالث فشهد فكأن الرماد نثر على وجه عمر!!. فلما جاء زياد رفع عمر رأسه إليه وصاح صيحة: ما عندك انت يا سلح العقاب( )؟!
وقال عبد الكريم بن رشيد ناقل هذا الخبر، ثم ان ابا عثمان النهدي الذي كان حاضراً في ذلك المجلس صاح صيحة تحكي صيحة عمر: لقد كدت ان يُغشى عليَّ لصيحته( ).
ومن الواضح طبعاً ان صيحة عمر على زياد، وتكبيره من شدّة الفرج بعد امتناع الشاهد الرابع ـ زياد ـ عن الاداء بشهادة صريحة على زنا المغيرة، تمثّل دليلاً قاطعاً على ان انكسار عمر كان بسبب الشهادة الصريحة للشهود الثلاثة على زنا واليه المغيرة بن شعبة!!
وبعد ذلك عزل عمر المغيرة عن ولاية البصرة وولاه على الكوفة. وقد ذكر جماعة من المؤرخين ان تلك الواقعة قد اتّخذت وسيلة للتندّر. فقد ذكر محمد بن سيرين كان الرجل من أهل البصرة يقول لصاحبه اذا بالغ في الدعاء عليه: غضب الله عليك كما غضب امير المؤمنين على المغيرة؛ عزله عن البصرة، واستعمله على الكوفة( )!… (ومن المعروف ان ولاية الكوفة اعظم وأهم من ولاية البصرة).
ومما يسترعي الانتباه هنا ان صيحة عمر على الشاهد الرابع وغضبه عليه واهانته له من خلال مخاطبته بسلح العقاب، انما أراد ان يعلمه بأنَّه (أي عمر) غير راض عن ادلائه بشهادة صريحة توجب الرجم، واشارة منه إليه بأن يكتم شهادته. وعندما كتم الشاهد الرابع شهادته ولم يدلِ بشهادة صريحة ضد صاحب عمر، كبّر عمر من شدّة الفرح ولم يعد قادراً على اخفاء سروره.
ثم ان عمر لم يوكل مهمة جلد الشهود الذين لم يستطيعوا اتمام شهادتهم بشهادة رابعة، الى الأشخاص المكلّفين باجراء الحدود، وانّما أوكلها الى المتّهم نفسه وهو المغيرة الزاني (الذي كان قطعاً عارياً مع امرأة أجنبية في لحاف واحد) لكي يجلدهم بكل قوّة انتقاماً لشهادتهم ضده. مع العلم ان عمر لم يجلد المغيرة ولو سوطاً واحداً من باب التعزير رغم ان الرجال الاربعة قد شهدوا كلّهم بانهم رأوه في خلوة عارياً وملاصقاً لأمرأة اجنبية عارية.
لقد كان عمر شديد الوفاء لاصحابه، فعندما سمع بأن ولاته اختلسوا اموالاً طائلة وان هناك اشاعات عظيمة قد انتشرت بشأنهم وان الشعراء قد نظموا اشعاراً في التشهير بتلك الاختلاسات الهائلة، وان الناس قد اوشكوا على الثورة ضد تلك الاوضاع، أمر ببقائهم في مناصبهم ولكن عليهم ان يعيدوا نصف ما اختلسوه الى بيت المال، أما النصف الآخر فقد اعطاه لهم؛ لكي يُسكت الناس من جهة، ويسترضي الولاة من جهة اخرى( ).
وهذا الموقف معاكس تماماً لموقف علي بن ابي طالب الذي قال ـ عندما أصبح خليفة ـ في أخذ الاموال المختلسة من بيت المال:
“والله لو وجدته قد تزوّج به النساء ومُلِك به الإماء لرددته”. كما ان ما سار عليه علي من تقسيم بيت المال بالسويّة( ) مثلما كان يفعل رسول الله، ادى الى ان يثور عليه طلحة والزبير والكثير من وجوه المهاجرين والانصار الذين اعتادوا على قبض المزيد من الاموال في عهد عمر( ) وعثمان، فخرجوا على علي واتّبعوا عائشة التي
كانت مبغضة لعلي وهجموا على البصرة ونهبوا ما كان في بيت المال وقتلوا الكثير من الابرياء. أي انهم خرجوا على الإمام المفترض الطاعة. وقد قال علي بن ابي طالب عن اصحاب الجمل الذين هاجموا البصرة وقتلوا كثيراً من الأبرياء: “فوالله لو لم يصيبوا من المسلمين الا رجلاً واحداً متعمّدين لقتله بلا جرم لحلَّ لي قتل ذلك الجيش كلّه، اذ حضروه فلم ينكروا ولم يدفعوا عنه بلسان ولا يد، دع ما انهم قد قتلوا من المسلمين مثل العدّة التي دخلوا بها عليهم”.
ـ وأما ما ورد حول عائشة فان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان قد أشار الى مسكنها فقال: هاهنا الفتنة من حيث يطلع قرن الشيطان( ).
ويمكن القول بايجاز بأنه عندما يُقسم الصحابة في عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الى عادل وفاسق ومنافق وطالب دنيا، وكان بعضهم في عهد رسول الله قد اقيم عليه
حد الزنا، وحد السرقة، وحد شرب الخمر، وحد الزنا بالمحصنة، وحد المحارب. وبعد عهد رسول الله اقيمت الحدود على آخرين منهم، مثل قدامة بن مظعون وهو من
اهل بدر، والوليد بن عقبة اللذين أُقيم عليهما حد شرب الخمر. وكان بعضهم مثل الصحابي سمرة بن جندب( )، يبيع الخمر، وبعضهم قتلة اطفال كما هو الحال بالنسبة الى معاوية( ) وبسر بن ارطأة، وقد خرجوا على إمام مفترض الطاعة مثل علي بن أبي طالب والحسن بن علي، وسيطروا على الحكم. وكذلك الحال بالنسبة الى بعض نساء رسول الله (صلى الله عليه وسلم) مثل عائشة التي كانت في عهد رسول الله تفشي اسرار داره الى اعدائه. ولهذا السبب نزلت فيهن آيات من سورة التحريم، وصرحت بزيغ قلوبهن: ﴿فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا﴾. وشبّههن الله تعالى بامرأتي نوح ولوط اللتين لم يغن عنهما ذلك (كونهن زوجتي نبيين) من الله شيئاً ولم يمنع دخولهما النار.
وبعد رسول الله عملن خلافاً لأمر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الذي أمرهن بأمر الله تعالى بعدم الخروج من بيوتهن: ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ﴾ فخرجت عائشة من بيتها وهجمت ـ مع من خرج معها ـ على اهل البصرة وقتلوا عدداً من الناس الأبرياء، وخرجوا على امام زمانهم علي بن ابي طالب ومهّدوا بذلك السبيل لظهور الخوارج وعصيان معاوية الجائر. وكان سبب كل ذلك بغض علي. رغم ان عائشة هي التي كانت أمرت بقتل عثمان، حيث قالت انه قد حكم بغير ما انزل الله، (ومن يحكم بغير ما انزل الله) فهو طاغوت وطاعته حرام، وقتله واجب. ووصفته بالطاغية وقالت “هذا الطاغية”. واصدرت أمراً بقتله حين قالت: «اقتلوا نعثلاً». وكان نعثل اسم رجل يهودي طويل اللحية. ولم يكن لعائشة أي عذر في قتل عدد من الابرياء من أهالي البصرة عند الهجوم على تلك المدينة.
الباب الثالث:
«آخر وصايا رسول الله(ص) للصحابة»
القرآن ووصايا رسول الله (صلى الله عليه وسلم):
﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾( ).
قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): “لتفترقنَّ أُمَّتي على ثلاث وسبعين فرقة، واحدة في الجنة واثنتان وسبعون في النار”( ).
وقال الله العزيز في كتابه الكريم:
﴿وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾( ).
وقال أيضاً في القرآن المجيد:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾( ).
وقال أيضاً: ﴿لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾( ).
وقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): “اني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي، ما ان تمسكتم بهما لن تضلوا”.
وصايا رسول الله:
قلنا بانه على الرغم من وجود اكثرية من الصحابة تميل الى الدنيا وكانت من بينهم جماعة تحب الرئاسة، وجماعة اخرى حاقدة، وفئة اخرى منافقة ومثيرة للفتن.
وفي ظل وجود مثل هذه المخاطر التي كانت بمثابة نار تحت الرماد لعهد ما بعد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان من الطبيعي أن يقع الصحابة وعموم المسلمين في الفتنة والفرقة والضلال لولا أن يكون الله والرسول (صلى الله عليه وسلم) قد وضعا علامة ومناراً يهتدي به الصحابة من بعد رسول الله ويستدلّوا به على ما يقيهم عثرات الطريق، والا فليس للصحابة من ذنب بل هم معذورون فيما لو وقعوا في الفتنة والاختلاف والضلال، وتكون الحجّة في ذلك على الله سبحانه، وعلى رسوله.
ويمكن ايجاز ذلك بالقول بأنه لو لم يجعل الله ورسوله للصحابة مناراً يستدلون به على واضح الطريق ويميّزون به بين الحق والباطل ويهتدون به من الوقوع في الضلال، فكان لا مناص لهم من الوقوع في مهاوي الفتنة والفرقة والضلال، ولا حجة عليهم في ذلك وانما الحجّة على الله وعلى الرسول.
ـ ولكن ان كان الله ورسوله قد وضعا العلامة والمنار للصحابة وللمسلمين بحيث يستطيعون عند رؤيته التمييز بين الحق والباطل، والاهتداء به من اجل اجتناب الوقوع في متاهات الفرقة والضلال، فلا حجة على الله ورسوله في ما يقع بعد الرسول من الفرقة والضلال، وانّما الحجّة في ذلك على اولئك الصحابة الذين تجاهلوا ذلك المنار وتغاضوا عنه عن علم وعمد، يدفعهم الى ذلك دافع حب الرئاسة، فانحرفوا على اثر ذلك عن طريق النجاة. وكانت النتيجة انهم كانوا سبباً في تفرّق الأمّة، ويبقى اثم فرقة وضلال الأمة الى يوم القيامة في اعناق اولئك الذين كانوا يتحركون بدوافع من الاحقاد وحب الرئاسة.
وهناك سؤال يراود الاذهان وهو: هل ان الحجّة في ما جرى من ضلال وفرقة الصحابة، على الله والرسول؟ أم ان الحجة في ذلك تقع على طلاّب الرئاسة من الصحابة؟ والجواب عن هذا السؤال واضح جداً عقلاً وهو ان الله ورسوله قد بيّنا للناس كل ما هو كفيل بهدايتهم الى التقوى وتوجيههم الى سبيل النجاة والوحدة، ولا حجة في ذلك على الله ورسوله. وليس ادلُّ على ذلك من الآيات القرآنية والاحاديث المتواترة على هذا الأمر العقلي الذي تقتضيه العدالة والرحمة الالهية الواسعة، حيث يقول تعالى في قرآنه الحكيم:
﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ﴾( ).
أي انهم إن ضلّوا فلا حجة علينا في ذلك وانما يعزى سبب ذلك الى الاهواء والنزوات التي تأتي عن علم وعمد لا عن جهل. فهذه الفئة من الصحابة كانوا من قبل ضالّين فهداهم الله وبيّن لهم كل سبل التقوى واجتناب الضلال.
وكذلك ثبت في التاريخ بالتواتر بأن أهل الشام لم يكونوا يعتبرون علياً مؤمناً وذلك بفعل تأثير الاعلام الذي كان يمارسه معاوية، في حين كان معاوية على معرفة تامة بمدى ايمان علي حتى قبل ان يسلم وحينما كان في صف المشركين في معركة بدر وأُحد والاحزاب، ولم ينس تضحيات وإقدام علي بن ابي طالب في الدفاع عن الاسلام وعن رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، الا ان حبّه للرئاسة ورغبته في الانتقام لاقاربه الذين قُتِلوا في بدر وأُحد بيد علي، دفعاه الى شنّ تلك الحملة الاعلامية المسمومة ضد علي( ).
وقال الله أيضاً في قرآنه الكريم:
﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا﴾( ).
﴿وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾( ).
ومن غير الممكن ان يكون الله قد اوجب الوحدة على المسلمين، وحرّم عليهم الفرقة، الا وقد بيّن لهم سبيل الحفاظ على الوحدة واجتناب الفرقة. وقد أمر الله عز وجل في الآية 59 من سورة النساء، بعدما أمر بطاعة الله والرسول واولي الأمر: ﴿أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِى الاَْمْرِ مِنكُمْ﴾؛ لأنه من الممكن حصول افتراق ونزاع بين الصحابة في ما يخص تفسير ومصداق اولي الأمر، لذلك فقد بيّن لهم في اعقاب ذلك مباشرة سبيل ازالة الاختلاف، حيث قال مباشرة بعد الامر بطاعة الله والرسول واولي الأمر:
﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾( ).
فهو تعالى يقول: إنَّ اختلفتم في شيء فارجعوا فيه الى الله والرسول، ولم يأمر بالرجوع الى الله والرسول واولي الأمر، لما قد يقع بينهم من اختلاف في تفسير وتعيين مصداق اولي الأمر. ولذلك فقد بيّن بأنَّ السبيل الى ازالة الاختلاف في معرفة وتعيين اولي الامر هو الرجوع الى الله والى الرسول، اذ انه معنى ومصداق ذلك كان معروفاً وواضحاً لدى جميع الصحابة ولا اختلاف بينهم في معرفة الله والرسول.
إذاً يُستفاد من هذه الآية ان الله تعالى كشف في هذه الآية للصحابة ان السبيل الى رفع النزاع يكمن في الرجوع الى الله والرسول، ولو لم يُحل الاختلاف من خلال الرجوع الى الله والى الرسول لما كان الله عز وجل قد جعل ذلك الرجوع كفيلاً بازالة ما بينهم من الاختلاف.
اذاً يتّضح بأن الله ورسوله قد بيّنا للصحابة في القرآن والسنّة الواقعية السبيل الصحيح لمعرفة اولي الأمر، وبالنتيجة بيّنوا لهم السبيل الكفيلة بتبديد الاختلاف (حيث يتسنّى لهم حينذاك الوصول الى السنّة الواقعية بسهولة). ولكن من غلبهم حب الرئاسة من الصحابة، والذين في قلوبهم مرض حب الدنيا والحقد على المضحّين من أصحاب رسول الله، وكذلك المنافقين المجهولين منهم، خالفوا عن علم وعمد ـ بدافع من المصالح الشخصية ـ المنار والعلم الذي نصبه لهم الله ورسوله. مثلما حصل في معركة احد، حيث ساقت المطامع الشخصية والرغبة في الحصول على الغنائم تلك الجماعة التي اوكل اليها رسول الله مهمة حراسة الجبل واوصاهم بعدم مغادرة اماكنهم حتّى وان شاهدوا المسلمين انتصروا، فتركوا أحد عن علم وعمد طمعاً في الحصول على المغانم، وكانت النتيجة حصول فراغ في عقبة احد فاستغلها العدو للالتفات على المسلمين وانزل بهم هناك هزيمة فادحة. ولذلك قال الباري تعالى في سورة آل عمران في وصف اولئك الصحابة: ﴿وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الاَْخِرَةَ﴾( ).
وتُطلق كلمة العاصي على من يرتكب ذنباً عن علم وعمد، لا عن جهل وخطأ. واولئك الذين غادروا جبل أحد رغبة في الحصول على مزيد من الغنائم، هم الذين حوّلوا نصر المسلمين الى هزيمة عندما خالفوا أمر الرسول الذي أوصاهم “بملازمة مواقعهم وعدم التخلّي عنها مالم يأذن لهم حتى وان رأوا ان المسلمين قد انتصروا وان المعركة قد انتهت”.
وهكذا الحال بالنسبة الى اكثرية الصحابة الذين تركوا رسول الله في ساحة المعركة بين الاعداء وانهزموا حفاظاً على أنفسهم، فارتكبوا بذلك ذنباً كبيراً وهو الفرار من الجهاد وترك الرسول في موقف خطير يهدد حياته. ولهذا السبب «ونظراً الى عدم وجود ضمانة على عدم اقتراف الصحابة لأي ذنب، اذا فعمل اكثرية الصحابة لا يُعد حجّة”. وبالنتيجة فان اتباعهم لا يُنجي من الضلال، وهم ليسوا اسوة، وعمل الصحابة لا يُعتبر دليلاً على الصحّة ولا على الجواز، وانما قول الصحابة العدول في نقل سنّة رسول الله حجّة.
نعود الى صلب الموضوع لنبيّن بأنَّ الله تعالى قال في كتابه الكريم بانني قد بيّنت لأولئك الذي انجيتهم من الضلال؛ أي الصحابة، كل سبل التقوى، ومنها سبيل الحفاظ على الوحدة في المسار الحق. إذاً فتفرّقهم وضلال بعضهم عن سبيل الحق لا يمكن ان يأتي عن جهل، وانما يأتي لدوافع ومآرب شخصية.
وأما بالنسبة الى التابعين فمن المحتمل ان تكون بعض اعمالهم عن جهل؛ وذلك لأن الذين بيّن لهم الله سبل التقوى والوحدة على طريق الحق هم الصحابة، وأما التابعين كأهل الشام مثلاً فانه من المحتمل ان يكون معاوية وانصاره قد اضلوهم منذ البداية بأكاذيبهم، وسدّوا عليهم المنافذ التي تتيح وصول السنّة النبوية الحقيقية الى اسماعهم مثل الاحاديث النبوية الواردة في فضائل علي بن ابي طالب وما شابه ذلك. وهكذا الحال بالنسبة الى التابعين في سائر البلاد الاخرى.
أقول ان الصحابة وحدهم (وليس التابعين) هم الذين اتيحت لهم منافذ الإطلال على ذلك النبع الزلال، وهم الذين سمعوا قول رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حين قال: اني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي، ما ان تمسكتم بهما لن تضلوا أبداً.
هناك طبعاً من عكّر صفو هذا النبع الصافي بالأكاذيب وبتضليل التابعين، وهم طلاّب الرئاسة والمنافقون المجهولون من الصحابة الذين خرجوا عن طوع العترة الهادية، وتحوّلوا بالنتيجة الى قادة للفرقة والضلال، من امثال عكرمة ومعاوية وغيرهما، من مبغضي علي بن ابي طالب الذين وضعوا الأحاديث الكاذبة ونسبوها الى رسول الله، وخلطوا الحقائق على التابعين وأضلوهم بالاخبار المتعارضة والمتضاربة، فزيّفوا حديث الثقلين واستبدلوا فيه كلمة “عترتي” بكلمة “سنّتي” لكي لا يتسنّى لأتباعهم معرفة وتمييز الاحاديث الصحيحة من الأحاديث الموضوعة (اي تلك الاحاديث التي تستهويهم)، وهكذا يبقون حيارى تائهين بين الأخبار المتعارضة. في حين ان الناس لو فكّروا قليلاً لوجدوا ان هذا الحديث: “اني تارك فيكم الثقلين ما ان تمسكتم بهما لن تضلّوا ابداً؛ كتاب الله وسنّتي” الذي وردت فيه كلمة “سنّتي” بدل “عترتي”، مكذوب على رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، على خلاف الحديث المتواتر الذي وردت فيه عبارة كتاب الله وعترتي (الذي هو حديث متواتر وصحيح. وقد نقله فى تاريخه الكبير البخاري ومسلم فى كتابه المعروف واصحاب السنن والمسانيد وغيرهم متواتراً).
أما الحديث الذي وردت فيه عبارة “كتاب الله وسنّتي”، فضعيف وغير متواتر نقلاً وغير مقبول عقلاً، وذلك لأن السنّة بعد رسول الله مختلف فيها ولا يمكن ان تؤدّي الى حل الاختلاف، اضافة الى ذلك لم ينقل حديث “كتاب الله وسنتي” مسلم والبخاري والسنن والمسانيد وليس من سند صحيح له، ولم يرد الا في موطأ مالك من غير سند. أضف الى كل ذلك ان ابن هشام نقل في سيرته، وابن حجر في صواعقه هذا الحديث الصحيح المتواتر “كتاب الله وعترتي”، الى جانب الحديث الضعيف وغير المسند كتاب الله وسنّتي. خاصّة وان ابن هشام نقل حديث “كتاب الله وسنّتي” عن ابن اسحاق من غير سند كامل، في حين ان كتاب السيرة لابن اسحق لا يوجد فيه مثل هذا الحديث الذي فيه “كتاب الله وسنتي”.
وفي القرنين الخامس والسادس وما تلاهما رتّبوا لحديث كتاب الله وسنّتي اسناداً. كما فعل الخطيب البغدادي الذي نقل هذا الحديث عن طريق سيف بن عمر وهو معروف بالكذب لدى اصحاب كتب الجرح والتعديل، يزعم انه نقل هذا الحديث عن اسحاق الاسدي، عن صباح بن محمد، عن ابن حازم، عن ابي سعيد الخدري (وتكشف كتب التاريخ ان شأن ابي سعيد الخدري كشأن عبد الله بن عمر، لم يبايع علياً بسبب بغضه له). وابو سعيد الخدري نفسه هو ناقل الحديث الصحيح والمتواتر “كتاب الله وعترتي”. وبالاضافة الى ابي سعيد الخدري فقد نقل هذا الحديث وبهذا النص أيضاً “كتاب الله وعترتي” زيد بن أرقم في كتاب مسلم وفي السنن والمسانيد وغيرها من عدّة طرق.
وقد نقل حديث “كتاب الله وعترتي” جابر بن عبد الله، وخزيمة بن ثابت، وسهل بن سعد، وحذيفة بن اُسَيْد، وزيد بن ثابت، وضميرة الأسدي، وعبد الله بن عباس، وعلي بن ابي طالب، وابو رافع، وابو الهيثم بن التيهان، وابو ذر الغفاري، وابو هريرة، وام سَلَمة، وام هانىء بنت ابي طالب، وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن عمر، وعدد كبير آخر من الصحابة. ونقل عدد لا يُحصى من تابعي القرن الاول حديث كتاب الله وعترتي عن جماعة من الصحابة. وكذلك الحال في القرنين الثاني والثالث وما بعدها إذ لا يبقى هناك ثمة شك أو ترديد في صحّة حديث “كتاب الله وعترتي”.
واما خبر الواحد المجهول “كتاب الله وسنّتي” الذي نقله فقط مالك في الموطأ من غير سند، وابن هشام والصواعق عن اتباع السلاطين، فكان من غير سند صحيح. واما في القرن الخامس وما بعده فقد انفرد بنقله الحاكم النيسابوري فقط، عن انصار معاوية الباغي، من امثال عكرمة وابي هريرة (الذي كان يلعن علياً في مدّة ولايته على المدينة) وهما من اعداء علي بن ابي طالب ومن اعداء العترة الطاهرة، حيث كان وضع الأحاديث ضد علي والعترة الهادية من الاساليب التي انتهجها معاوية وجلاوزته.
قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في علي “ياعلي لا يبغضك الا منافق”. يعني ولا يوجد بين اعداء علي، مؤمن واحد. وانما كلهم منافقون من غير استثناء. وهذا القول شهادة من رسول الله على ان جميع اعداء علي بلا استثناء، منافقون في حين اننا نعلم بأنه لم يكن احد من الصحابة اشد بغضاً لعلي من معاوية واعوانه من امثال عكرمة واضرابه. وهم كلهم ـ بشهادة رسول الله ـ منافقون. وقد شهد الله على المنافقين ـ في أول سورة المنافقون ـ بأنهم كلهم كاذبون:
﴿وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ﴾. ﴿صدق الله العظيم﴾
ـ اما بالنسبة الى كذب سيف بن عمر الذي نقل عنه الخطيب البغدادي في كتابه الفقيه المتفقّه حديث “كتاب الله وسنّتي”، فكل علماء الجرح والتعديل يعتبرون سيف بن عمر كذاباً. نذكر منهم على سبيل المثال: ابن حاتم (المتوفى عام 327) الذي ترك حديثه، ويحيى بن معين (المتوفى عام 233) اعتبره ضعيف الحديث وانّ فلساً خير منه، وأبا داوود اعتبره كذاباً. واعتبره النسائي (المتوفى عام 303) ضعيفاً. ونقل كل من ابن عون (المتوفى عام 365)، والحاكم (المتوفى عام 405)، والخطيب البغدادي نفسه، وابن عبد البر (المتوفى عام 463) عن ابن حبّان قوله: “سيف متروك الحديث و…”.
(ـ سيف بن عمر هذا هو ذلك الكذّاب الذي اختلق قصّة تاسيس المذهب الشيعي على يد عبد الله بن سبأ. ونقل الطبري هذه القصّة المختلفة المكذوبة عن سيف، وأثار بذلك الشكوك حول صحّة واعتبار سائر اقواله. في حين ان عمر نفسه نقل قضية افتراق علي وفاطمة وشيعة علي عن عمر بن الخطاب وابي بكر، وجاء ذلك في كتاب البخاري في ابواب الحدود، في باب حد الحبلى. أي أن افتراق اتباع علي عن اتباع السلاطين حصل بعد رحلة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) مباشرة، وليس كما زعم سيف بن عمر).
ـ وعلى اية حال فانَّ السنّة التي ضاعت في خضم الاخبار المتضاربة والمتعارضة،
وصارت موضع اختلاف ومصدراً للاختلاف ولم يعد يُعرف صحيحها من كذبها “وتلاشت السنّة الحقيقية بين الأحاديث المتعارضة”. فكيف يمكن للشيء الذي اضحى ـ من بعد رسول الله ـ مجهولاً ان يستنقذ الامة من هذا الاختلاف، ومن الضياع الناتج عن هذا الاختلاف.
فان كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قد عيّن ما يزيل الاختلاف والضلال من بعده، فمن المحال ان لا يزول ذلك الاختلاف عند الرجوع الى ما عيّنه الرسول، والذي عيّنه الرسول هم العترة مثل علي بن ابي طالب وبقية الأئمة من العترة الهادية. حيث يمكن من بعد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) معرفة السنّة الصحيحة لرسول الله من بين الاخبار المتعارضة من خلال الرجوع الى العترة الهادية، ويمكن الفرز عند ذاك بين السنّة الواقعية والاخبار الزائفة الكاذبة. وذلك لأن علي بن ابي طالب الذي هو من العترة كامل الايمان، ولديه علم تام بكل القرآن والسنّة وهو مبيّن للسنّة الواقعية. وعندما يسأل الناس من العترة الهادية تتبيّن لهم السنّة الواقعية.
ولكنهم اذا رجعوا بعد رسول الله الى الاحاديث المختلف فيها بين ابناء الأمّة، فمن المحال ازالة ذلك الاختلاف. “والسنّة المختلف فيها” بعد رسول الله لا يمكن ان تكون بحد ذاتها مزيلة للاختلاف. اذ ان الاختلاف بشأن الاحاديث كان مدعاة لاختلاف المذاهب والفرق. أي ان الاحاديث المتضاربة والمتكاذبة والمختلف فيها كانت بحد ذاتها مصدراً للاختلاف على الدوام وليس مصدراً لحل وازالة الاختلاف.
اذاً فقد اتضح بأن هناك فارق بين هذين الخبرين المتعارضين:
وأحدهما حديث كتاب “حديث الله وعترتي” المتواتر، وان مهمّة ازالة الاختلاف تتكفّل بها ـ من بعد القرآن ـ العترة الهادية، أي علي بن ابي طالب، (والأئمة من العترة) الذين هم عالمون بالسُنّة الواقعية كلها.
والآخر حديث ضعيف وهو الذي وردت فيه عبارة “سنّتي” بدل “عترتي”، واوكل فيه رفع الاختلاف في السُنّة الى “نفس السنة المختلف فيها”. ومن المحال ان تكون السنّة المختلف فيها قادرة على حل ما تختلف فيه الأُمّة.
اذاً تبيّن بأن “الذي إن تمسكت به الامة فانّها ستدرك السنّة الواقعية”، ولا تقع في الضلال بعد رسول الله، اضافة الى القرآن هي “العترة”. والحديث المعارض له هو “الذي جعل السنة المختلف فيها بعد رسول الله، هي سبيل لاجتناب الوقوع في الضلال”. ومن البديهي ان هذا الحديث موضوع وهو من اختلاق المنافقين المجهولين (اعداء علي واعداء عترة رسول الله).
ان اتباع العترة وأهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كعلي بن ابي طالب، والحسن بن علي، والحسين بن علي، وعلي بن الحسين، والامام الباقر، والامام الصادق، من ذرية فاطمة سيّدة نساء اهل الجنّة، هم الاتباع الحقيقيون لسنّة رسول الله، وهم اهل السنّة الواقعيّون، وهم اتباع القرآن والسنّة الواقعية. في حين ان “قادة ما سوى العترة”، وفقاً لمفهوم حديث الثقلين “كتاب الله وعترتي ما ان تمسكتم بهما لن تضلوا”، ماهم الا قادة ضلال.
لقد ازاحوا عترة رسول الله الهادية عن علم وعمد. وادّى انحراف القيادة السياسية الى زرع الاختلاف وألقوا مستقبل الامّة في احضان بني اميّة، وقادوا الامّة الى التناحر والقتال. واما على الصعيد العلمي فبما انّهم كانوا جهلة وغير قادرين على قيادة الامة علمياً فقد وضعوا اول واعظم فاصل وتفرقة وهو فصل القيادة العلمية عن القيادة السياسية، وهو ما حصل بعد رسول الله مباشرة حين ابعدوا علياً عن القيادة السياسية. وبما ان القابضون على السلطة السياسية لم يكونوا يريدون للناس أن يتّبعوا العترة الهادية (العالمة بالقرآن والسنّة)( )اتباعاً تاماً حتى في القضايا العلمية، وكانوا هم عاجزين عن الاجابة عنها. ولذلك كانوا يحيلون الناس الى افراد مختلفين وكثيرين. ومن ذلك انها كانوا يحيلون من لديه سؤال حول تفسير القرآن الى شخص، ويحيلون من لديه سؤال فقهي الى شخص آخر( )، وما شابه ذلك. وكان اكثر ما يثير حنقهم الرجوع الى العترة الهادية.
وبالنتيجة فقد ادّى تخبّط الناس في القضايا الفقهية والعقائدية والقرآنية وما شابه ذلك، الى ظهور الاختلاف في المذاهب العقائدية والفقهية. وفضلاً عن الفصل بين القيادة السياسية والقيادة العلمية، فقد تم تجزئة وتقسيم القيادة العلمية أيضاً (حيث ظهر هناك قادة عقائديون، وقادة فقهيون، وقادة…). ثم ان القيادة السياسية نفسها
تجزّأت (واتخذ كل شعب من الشعوب الاسلامية لنفسه قيادة، وانهمكوا في التناحر والحروب في ما بينهم بدلاً من محاربة الكُفّار). والضعف الذي يعيشه العالم الاسلامي يُعزى سببه الى انعدام القيادة الواحدة بينهم.
ولو ان “العترة الهادية العالمة بكل القرآن والسنّة”، كعلي بن ابي طالب اخذت بزمام القيادة السياسية، لكانت القيادة العلمية والسياسية، موحّدة في شخص واحد، مثلما كان الحال في عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم). ولما كان يحصل في ظل حكمه أي انحراف عن الحق او أي افتراق في صفوف الامة. وبالنتيجة فان الذين شتتوا شمل الامّة هم اولئك الذين ازاحوا علياً (وهو من عترة رسول الله) العالم الكامل بالقرآن والسُنّة، وهم الذين تسببوا في حصول هذه الفرقة والضلال. وكان دافعهم لذلك هو حب الرئاسة( ) لا غير.
فهل يُعقل ان الرسول (الذي حرّم الفرقة الى يوم القيامة) لم يعيّن للامّة لمرحلة ما بعد وفاته، ما تتمسك به ويكون لها اماناً من الفرقة السياسية، والاعتقادية، والفقهية، ومع ذلك فقد اوجب عليها الوحدة وحرّم عليها الفرقة الى يوم القيامة. وهذا لايعني بطبيعة الحال إلاّ تكليفاً بما لا يُطاق( ) بل النبي عيّن للأمّة لمرحلة ما بعد وفاته ما ان تتمسك به يكون لها اماناً من الفرقة السياسية والاعتقادية والفقهية.
رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يعيّن ما هو ضروري لحفظ وحدة المسلمين
كل مجتمع، اسلامي كان او غير اسلامي، لابد له من امير وحاكم، وهذه ضرورة عقلية لا ينكرها عاقل. بيد “ان حاجة المجتمع الاسلامي الى امام، فهو شيء اعلى من وجود الحاكم”، وذلك لأن وجود الحاكم ضروري في كل الاحوال، لكي يمنع وقوع الفوضى في المجتمع، ولا احد ينكر ذلك. ولكن الحاجة تدعو الى وجود “الإمام” لمنع خطأ وانحراف وافتراق الأمّة، وذلك استناداً الى المعطيات التالية:
أولاًـ وجود أي حاكم لا يمثل (ضمانة لتحقيق العدالة التامّة) مانعاً تاماً من الوقوع في الضلال.
ثانياًـ ان الحاكم من غير العترة الهادية (حتى وان كان من كان) لا يمكن ان يكون معصوماً من الخطأ. (ولا يمكنه منع وقوع الفرقة التي تأتي نتيجة لنقل الاحاديث المتعارضة). ولهذا فمن المناسب البحث في وصايا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) التي وردت في خطبة غدير خم، وفي اثناء مرضه الذي انتهى بوفاته، وقوله( ) في خطبة غدير خم: من كنت مولاه فهذا علي مولاه، وقوله أيضاً: اني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي، ما ان تمسكتم بهما لن تضلّوا.
ولكن مسلم نقل في كتاب حديثه المعروف، القسم المتعلّق بالثقلين فقط، أي القرآن والعترة، وقال بأن رسول الله اوصى بذلك كثيراً. بينما نقلت كتب السنن ومسند احمد وكتب التاريخ مزيداً من الجُمل حول هذا الموضوع، وهو ان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: ما إن تمسكتم بالقرآن والعترة من بعدي لن تضلوا ابداً.
والسؤال الذي يُثار هنا هو: لماذا نقل البخاري ومسلم و… هذا الحديث ناقصاً على الرغم مما له من الأهمية؟ اذ ان كل واحد منهما نقل قسماً منه ولم ينقلاه كاملاً. ويمكن الحصول على جواب هذا السؤال من خلال اجراء مزيد من البحث والتحقيق في هذا المجال، وذلك لأن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في غدير خم جعل قيادة الامة من بعده للعترة الهادية، وليس لمن يسيطرون على زمام الامور من غير العترة. ولهذا السبب لم ينقل اتباع السلاطين من غير العترة قصّة غدير خم اصلاً، أو انهم حذفوا منها ذلك القسم الذي يعتقدون بأنه ناقض لمذهبهم ويكشف عدم مشروعية خلافة أبي بكر وعمر (لانهما لم يكونا من العترة).
لزوم الرجوع الى القرآن والسنّة المتواترة لمعرفة اولي الأمر المفترضي الطاعة:
﴿أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِى الاَْمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْء فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾﴿ ).
بيّن الله تبارك وتعالى في هذه الآية من تجب طاعتهم في الاسلام، وهم:
الاول: الله.
الثاني: الرسول.
الثالث: أولو الأمر.
ولكن لما كان الناس في ذلك العصر يعرفون الله ورسوله، وكانوا بحاجة الى تعريف من يعرّفهم بأولي الامر سواء من حيث المعنى او من المصداق، ويبيّن لهم من هم، اذ من المحتمل ان يكون ذلك موضع خلاف ونزاع بين الناس. ولذلك قال تعالى في مواصلة هذه الآية مباشرة:
﴿فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْء فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾.
أي انكم اذا اختلفتم في تفسير وتعيين مصداق اولي الأمر، فارجعوا الى الله والى الرسول (ولم يقل ارجعوا الى اولي الأمر، وذلك لأن موضوع “اولي الأمر” قد يكون هو نفسه موضع اختلاف ونزاع). ولهذا السبب يجب الرجوع الى الله والى الرسول حتى لمعرفة اولي الأمر. ويتضح من ذلك ان لدى الله والرسول جواب واف حول معرفة اولي الامر، وإلاّ لما أرجع الباري تعالى الناس الى هذين المرجعين.
وهكذا ينبغي لنا الرجوع الى القرآن والسنّة لمعرفة اولي الأمر المفترضي الطاعة الذين امرنا الله بطاعتهم بعد رسول الله. ومن المؤكد ان اولي الامر المفترضي الطاعة هو قائد وامام الامة بعد رسول الله، اذ نصّت الآية 83 من سورة النساء على ما يلي:
﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾.
أي اذا تناهى الى اسماعهم خبر حول الأمن والمخاطر يسارعون الى بثّه، ولكن لو ردّوه الى رسول الله او الى أولي الامر منهم، يستطيعون استنباط واستكشاف جوابه ورد الفعل المناسب له من القرآن والسنّة.ان الصحابة ليس لهم مثل هذه القدرة الاستنباطية. بل ان قدرة الاستنباط هذه، خاصّة بالرسول وأولي الامر فقط.
ويُستفاد من هذه الآية ان رسول الله واولي الامر اعلم الامة بالقرآن والسنة، بل انهم اعلى من الاعلم، ويجب القول ان رسول الله واولي الامر هم العالمون الكاملون بالقرآن والسنّة. وهذا يعني ان استنباط احكام الحوادث الجديدة منحصر بهم، ورسول الله واولو الأمر هم فقط القادرون على مثل هذا الاستنباط.
وفي سورة البقرة عندما اعترض بنو اسرائيل على تعيين طالوت ملكاً عليهم، قال لهم الله: ﴿وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ﴾( ) (يعني ان الاعلمية من ملاكات نصب الامام من الله).
وكذلك يستفاد من قوله تعالى: ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَ مِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾( ) بأن الله عز وجل لا يجعل الظالم قائداً واماماً. وبالنتيجة فان اولي الامر وامام المسلمين ـ اضافة الى لزوم كونهم اعلم الامّة ـ يجب ان يكونوا عادلين ومعصومين أيضاً. هذا فضلاً عما يفهم من الآية الشريفة ﴿أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِى الاَْمْرِ مِنكُمْ﴾ بأنه من غير الممكن ان يكون مصداق أولي الأمر فرداً ظالماً؛ وذلك لأن الله تعالى الذي حرّم الظلم وحرّم حتى التعاون على الظلم، من غير الممكن ان يقوّى حكومة الظالم من خلال الأمر بوجوب طاعته، فيكرّس بذلك ظلمه. هذا ناهيك عمّا يستلزمه هذا من تناقض في الآية نفسها، وذلك لأن الظالم عندما يأمر بالظلم مثل ضرب أو جرح او قتل انسان بريء او طفل او رضيع او يأمر بشرب الخمر وترك الفرائض الدينية، ان كانت اطاعته واجبة فذلك يستلزم ترك طاعة الله، خاصة اذا كان هو يشرب الخمر، ويريد القضاء على الدين.
وخلاصة الكلام هي اننا نستفيد من هذه الآية ان ظالماً مثل يزيد بن معاوية الذي ما كان يتورّع عن ارتكاب أي ظلم وحرام كشرب الخمر( )، والزنا بالمحارم( ) وحتى انه أمر بقتل( ) سبط رسول الله وأحد سيدي شباب اهل الجنّة، وهو الحسين بن علي (من العترة الهادية) وطفله الرضيع علي الأصغر، وابن اخيه غير البالغ وهو القاسم، وقتل ذرية رسول الله.
ثم انه أمر بالهجوم على المدينة والاستيلاء عليها واستباحتها ثلاثة أيام( ) لجيشه ليفعل ما يشاء بارواح الناس واموالهم واعراضهم ابتداءً من الصحابة وحتى التابعين( )، فقتلوا كثيراً من الناس حتى بلغت الدماء الى قبر النبي في المسجد، وزنا افراد جيش يزيد بكثير من نساء الصحابة وبناتهم بحيث ولد بعد تسعة اشهر من ذلك التاريخ ما يربو على ألف نغل. ثم ان يزيد نظم اشعاراً صرّح فيها بكفره وعدم ايمانه برسالة النبي الهاشمي حين قال:
لـعبت هاشـم بالـملك فلا
خبـر جاء ولا وحي نزل
ليت اشياخي ببدر شهدوا
جزع الخـزرج من وقع الأسل
قد قتـلنا القرم من ساداتـكم
وعدلنا ميـل بدر فاعتدل
فـاهلـّوا واستـهلوا فرحـاً
ثم قالوا يا يـزيد لا تُـشل
لست من خندف ان لم انتـقم
من بنـي احمد ما كان فعل
فهل يمكن القول بأن يزيد من اولي الامر الواجبي الاتباع والطاعة لمجرّد انه كان حاكماً على المسلمين وان اولئك الذين اقترفوا الكثير من المظالم بأمره، أو الذين انكروا رسالة النبي ـ حسب تعبيره ـ من اهل الجنّة؟
وألم تكن تلك المظالم والمخالفات لدين الاسلام هي التي أثارت الامّة الاسلامية ضد يزيد وبني اميّة، وأحدثت شرخاً عظيماً بين المسلمين؟ ولولا ثورة المسلمين ضد بني أمية وقضائهم عليهم، لاستمر منع تدوين الحديث النبوي (وهو ما كان يُمارس في عهد بني امية) ولتواصلت اعمال بني اميّة الهادفة الى القضاء على الدين، ولو انها استمرت الى عدّة قرون اخرى لكانت سنّة رسول الله قد طُمست كلياً ولقُضي على الاسلام قضاءً مبرماً.
عند الرجوع الى القرآن نلاحظ ان الله قد حرم الظلم والحاكم الظالم ونهى عن التعاون على الظلم، واوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خاصة عند الحاكم الجائر، وغير ذلك من المبادىء، وهذا يمثّل أوضح دليل على ان هذا الظالم لم يكن ولي امر مفترض الطاعة من قبل الله ورسوله، بل ان الله أوجب محاربته والتصدّي له، لاسيما انه يمثّل مصداقاً للطاغوت، والكفر بالطاغوت واجب: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً﴾( ).
هذه الآيات القرآنية التي تحرم حكم الظالم وتأمر بالكفر به وتوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هي التي دفعت الناس الى الثورة ضد بني اميّة، واجتثاث حكمهم من اساسه.
وحتى عندما ثار الصحابة ضد عثمان الاموي، فهم قد استندوا الى هذه الآيات والروايات. وهذا الواقع هو الذي جعل حتى عائشة تصف عثمان بالطاغوت وتأمر بقتله( ). وقالت ان عثمان لا يعمل بأحكام من القرآن والسنّة النبوية بل انه يحكم بغير ما أنزل الله. وقد ورد في القرآن الكريم ما يلي:
﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾﴿ ).
وكما ينقل فان عمر بن الخطّاب كان قد تنبّأ بمثل هذا المصير لعثمان الاموي، وحذّره من ذلك، حيث وصفه بأنه كلِف باقاربه، وقال له: كأني بك وقد قلدتك قريش هذا الأمر فحملت بني امية وبني أبي معيط على رقاب الناس، وآثرتهم بالفيء، فسارت إليك عصابة من ذؤبان العرب فذبحوك على فراشك ذبحاً( ). ويبدو ان عمر بن الخطاب كان قد أخذ هذه النبوءة عن رسول الله حين قال ـ كما يروى ـ بأن حكم بني امية على الناس حرام، واذا بلغت بنو امية اربعين اتخذوا عباد الله خولاً ومال الله نحلاً وكتاب الله دغلاً( ) ويسومون الناس غاية الظلم.
وفي عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أيضاً كان عثمان بن عفان الاموي ممن انهزموا في معركة أحد واختبأ في الجبال ثلاثة أيام( )، ولم يجابه مشركي قريش، وكان كثيراً ما يلقى من المسلمين اللوم والتقريع على ذلك الموقف( ).
وجاء في القرآن الكريم ان الله تعالى قال لابراهيم اني جاعلك للناس اماماً. فسأله ابراهيم ان يجعل من ابنائه وذريته اماماً وقائداً للناس. فقال له الله: ان عهدي لا يشمل الظالمين (اي ان من شروط الامامة والقيادة العدالة) ولا يمكن ان يجعل الله على الناس اماماً وحاكماً ظالماً:
﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾( ).
وهذا يعني ان الامام وولي الأمر يجب ان يكون ـ كما نصّت على ذلك الآية 83 من سورة النساء ـ عالماً كاملاً بالقرآن والسنة الواقعية، ولديه القدرة على استنباط الاحكام الصحيحة منهما، كما يجب ان يكون عادلاً، بل ينبغي ان يكون ـ وفقاً لما ينص عليه حديث الثقلين المتواتر حول العترة ـ معصوماً من الخطأ أيضاً.
آخر وصية للرسول عند العودة من الحج:
في السنة العاشرة من الهجرة، وهي السنة الاخيرة من عمر الرسول، وفي آخر شهر حج يدركه الرسول ولا يبعد عن وفاته بفاصل زمني طويل، توقف عند العودة من الحج في موضع يُقال له غدير خم، وألقى خطبة اورد فيها ـ بعد حمد الله والثناء عليه ـ جملة من المواعظ ثم اشار فيها الى قرب اجله وانه موشِكٌ على الرحيل، وكان ذلك خبراً مؤلماً هز اعماق المسلمين. ثم تطرق الى ما ينبغي ان يفعله المسلمون من بعد رحيل قائد معصوم وجامع لكل خصال الكمال مثل رسول الله، وما الذي يجب ان يفعلوه في شؤونهم السياسية والعلمية وما شابه ذلك. خاصة وان الصحابة كانوا قد سمعوا من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) انه قال بأنه سيتسلّط على الناس من بعدي ائمة ضلال، وان اصحابه سيدخلون النار يوم القيامة أفواجاً بسبب ما ابتدعوه من بدع من بعده، ولا ينجو منهم الا القليل النادر. واليك في ما يلي نص قوله:
«فاذا زمرة حتى اذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال هلّم فقلت اين؟ قال الى النار قلت وما شأنهم؟ قال: انهم ارتدوا على ادبارهم القهقري ـ فلا يخلص منهم الا مثل همل النعم»( ).
وقال صلوات الله عليه في موضع آخر: “يكون من بعدي ائمة لا يهتدون”( ).
وفي ضوء ما ورد في حديث الثقلين حول العترة يتّضح بأن مراد رسول الله من “أئمة الضلال”، هم “القادة من غير العترة”. لكن الجمل والعبارات التي قالها رسول الله في خطبة الغدير بعد الإخبار عن قرب وفاته تعرّضت للكثير من الحذف (في نقل) على خلاف سائر عباراته ومواعظه، او انهم اكتفوا بنقل مقدار منها مما لا يسيء للحكام والسلاطين بعد رسول الله. وكلما كان ناقل الحديث اقرب الى بني امية وابعد عن العترة الهادية كان حذفه من تلك العبارات اكثر. وكلما كان الراوي اكثر مودّة لذوي القربى ومحبّة لهم كان حذفه اقل. نذكر على سبيل المثال ان البخاري اكتفى في تاريخه الكبير بأوجز العبارات والجمل (مما كان يراه اقلها ضرراً على مذهبه) من خطبة رسول الله في غدير خم، وقال: قال رسول الله: “من كنت مولاه فهذا علي مولاه”.
اما مسلم فقد أشار في كتاب حديثه الى قصّة غدير خم، اشارة مقتضبة وعابرة، قال فيها ما يلي: “قام رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يوماً خطيباً فينا بماء يدعى خماً بين مكة والمدينة فحمد الله واثنى عليه ووعظ وذكّر” ثم قال:
«اما بعد الا ايها الناس فانما انا بشر يوشك ان يأتى رسول ربّي فاجيب وانا تارك فيكم الثقلين «اولهما كتاب الله» فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به فحثّ على كتاب الله ورغب فيه ثم قال و”اهل بيتي”، اذكّركم الله في اهل بيتي اذكركم الله في اهل بيتي اذكركم الله في اهل بيتي».
وقد سمع ان الراوي سُئِل: فمن أهل بيته؟ أليست نساؤه من أهل بيته؟ قال: لا ( ).
كان هذا مقدار ما نقله مسلم من هذه القصّة، وهو (كما نلاحظ) مختصر جداً لأنه يقول: “قام رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يوماً فينا خطيباً” ولابد ان تكون الخطبة مطوّلة. وأخبرهم فيها عن قرب وفاته ثم قال اني تارك فيكم شيئين مهمّين احدهما القرآن، والآخر أهل بيتي. وبعدما أخبر عن قرب أجله، ذكر أهل بيته ثلاث مرّات. (وورد في احاديث اخرى بشكل متواتر، كما ورد عند تفسير آية التطهير، وعند ذكر قصّة المباهلة ان رسول الله ذكر ان مراده من أهل بيته هم ابنته فاطمة وسبطاه الحسن والحسين، وعلي بن ابي طالب. وحتى انه ورد في خبر في تفسير آية التطهير بأن أم سلمة قالت: ألست من اهل البيت يارسول الله؟ فقال: انكِ على خير.
وقد حصر رسول الله معنى كلمة أهل البيت ـ كما ورد في تفسير آية المباهلة، وآية التطهير ـ في هؤلاء الاربعة فيكونون معه خمسة. اضافة الى ما ورد في حديث غدير خم( ) وهو حديث متواتر أيضاً ان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ذكر اسم علي بن ابي طالب، بل انه رفع يده ووصفه بأنه مولى المسلمين مثلما انه هو نفسه مولاهم وقال: “من كنت مولاه فهذا علي مولاه”. وحتّى البخاري( ) نقل هذه الجملة وهي: “من كنت مولاه فهذا علي مولاه”.
لقد نقلت اقوال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بحذافيرها حتى وان كانت امام شخص واحد او عدّة اشخاص، ومتى ما كان يقول كلاماً فانه كان ينقل بتمامه وكماله. ولكن نلاحظ ان هذه الخطبة السياسية المفصّلة التي أُلقيت على مسامع ما يزيد على مائة وعشرين ألف حاج في غدير خم وتضمّنت مجموعة من الوصايا المهمة وبيّن فيها ما يكفل ازالة الاختلاف، قد نُقلت مبتسرة، وكأن البخاري ومسلم من اتباع السلاطين ومن الرواة المحابين لبني أمية، ولا يروق لهم نقل هذا الحديث السياسي المهم (الذي جعل الخلافة في العترة فقط) بتمامه. والبعض الآخر لم ينقل هذا الحديث بتمامه خوفاً من السلاطين.
ـ أما بالنسبة الى مؤلّفي الكتب فقد نقله البعض منهم بشكل اكمل، والبعض الآخر بشكل أنقص. وكما ذكرنا فان مؤلفي الكتب كلما كان احدهم اشد ميلاً لبني أمية واكثر عداءً لآل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وعترته فقد نقل الحديث بشكل انقص. وكلّما كان اكثر ميلاً لعترة رسول الله واقل ميلاً لبني امية (او كان لا يميل الى اعداء ذوي القربى) كان ينقل الحديث بشكل اكثر واكمل.
نذكر على سبيل المثال ان “الترمذي” كان اقل ميلاً الى بني امية بالمقارنة مع البخاري” و”مسلم”، ويميل اكثر منهما الى ذوي قربى رسول الله، وقد نقل في كتاب حديثه جملة: “من كنت مولاه فهذا علي مولاه” التي قالها رسول الله في خطبة غدير خم. (ونقل أيضاً حديث المباهلة وهو ان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) اخذ معه علي بن ابي طالب والحسنين وفاطمة للمباهلة. وأيضاً في تفسير آية التطهير حيث قال ان رسول الله بعد أن أدخل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) علي بن ابي طالب وفاطمة والحسنين تحت ردائه، دعا لهم وتلا آية التطهير التي نزلت فيهم في سورة الأحزاب. مبيّناً بأن المراد من أهل البيت في المباهلة وفي تفسير آية التطهير هم هؤلاء الاربعة ويكون عددهم مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) خمسة. وتجدر الاشارة الى ان الترمذي نقل حديثين آخرين حول علي بن ابي طالب، احدهما حديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الذي قال فيه حول علي بن ابي طالب:
1ـ “علي مني وانا من علي، ولا يؤدّي عني الا انا أو علي”.
وهو يكشف ان اهداف رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لا يمكن ان يؤدّيها عن جدارة الا هو أو علي، وان علياً اقرب الناس الى رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
(تجدر الاشارة الى ان البخاري، في ابواب المناقب، اكتفى بذكر قول رسول الله لعلي: “انت مني وانا منك”. وكذلك اقتصر في ابواب الغزوات ـ باب عمرة القضاء ـ على هذا القول أيضاً وهو: “انت مني وانا منك”)، وأسقط بقية الحديث.
2ـ الحديث الآخر الذي نقله الترمذي هو قول رسول الله (صلى الله عليه وسلم): “ان علياً مني وأنا منه، وهو ولي كل مؤمن بعدي”.
وهذا الحديث يكشف بعبارة اخرى بأن علياً ولي ومولى كل مؤمن بعد رسول الله، وهو يؤيد حديث: “من كنت مولاه فهذا علي مولاه”( ).
وعندما نضع هذه الاحاديث الى جانب حديث المنزلة الذي قال فيه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عند مسيره الى غزوة تبوك، لعلي بن ابي طالب: “انت منّي بمنزلة هارون من موسى” وهو حديث متواتر. أي مثلما كان هارون خليفة موسى فأنت خليفتي أيضاً، عند ذاك يتضح لنا بكل جلاء معنى قول رسول الله في غدير خم. ومع ذلك فحينما نلاحظ النص الكامل لحديث الغدير تتجلى لنا القضية بشكل أوضح. نذكر مثلاً ان “الترمذي” ذكر في كتابه في باب مناقب اهل البيت عن زيد بن ارقم في ما يتعلّق بحديث الثقلين ان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال:
“اني تارك فيكم ما ان تمسكتم به لن تضلوا بعدي احدهما اعظم من الآخر كتاب الله حبل ممدود من السماء الى الارض و”عترتي” اهل بيتي ولن يفترقا حتى يردا علّى الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما”.
وكان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قد أدلى بحديث الثقلين ـ كتاب الله وعترتي ـ عدا ما قاله في غَدير خُم ـ في ايام الحج في عرفة، وفي مواضع اخرى، وفي اثناء مرضه الذي توفي فيه. وقد نقله “الترمذي” و”احمد” في مسنده وغيرهما. وإن كان هناك اختلاف في نقل الحديث بسبب اختلاف بيان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) تبعاً لاختلاف المواضع، فقد بيّن بالفاظ مختلفة حقيقة واحدة. او ربّما كان هناك اختلاف في بيان الراوي في النقل بالمضمون، ومضمونها كلها واحد ولا فرق بينها من حديث المعنى والمقصد، مثلاً نقل “الترمذي” عن عبد الله الانصاري قال: رأيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في حجّته يوم عرفة وهو على ناقته القصواء يخطب فسمعته يقول: “يا ايها الناس اني تركت فيكم ما ان اخذتم به لن تضلوا كتاب الله وعترتي اهل بيتي”. كما انه نقله أيضاً عن طريق ابي ذر وحذيفة.
وكان ينبغي طبعاً ان تتعدد الكلمات وان يستخدم رسول الله عبارات متنوعة تبعاً لاختلاف الزمان والمكان لبيان ما ينقذ الامّة من الضلال الى يوم القيامة.
وقد ورد مضمون حديث غدير خم في احاديث اخرى أيضاً، مثلاً في حديث السفينة:
“مثل اهل بيتي كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق”( ).
وحديث: “الحق مع علي وعلي مع الحق”( ).
إلى غير ذلك من الاحاديث الاخرى. وحتى آية وجوب مودّة ذوي القربى يمكن ان تؤيد هذا المعنى أيضاً، اذ ان علياً من ذوي القربى. وذلك قول الله تعالى:
﴿قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾( ).
وقوله تعالى: ﴿مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْر فَهُوَ لَكُمْ﴾( ).
وقوله تعالى: ﴿قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً﴾( ).
وخلاصة القول هي ان محبتهم طريق الى الله، والسير على طريق الله هو طريق الاسلام الواقعي والسعادة الأبدية.
(وجملة: “اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره( )واخذل من خذله”. وهذه العبارات التي وردت في سياق حديث الغدير من بعد قوله: “من كنت مولاه فهذا علي مولاه” انّما هي من هذا القبيل؛ وذلك لأن من يحب اولياء الله ويطيع من اوجب الله اطاعته فان الله يرضى عنه، لأن الله يحب اوليائه وينصرهم، يعني ويهديهم الى سواء السبيل، وهم من المهتدين حتى وان قُتلوا مثلما حصل لأبي ذر الغفاري وعمّار بن ياسر. واما الذين يبغضون اولياء الله وخاصة لم يطيعوا من اوجب طاعتهم شرعاً، فان الله يغضب عليهم ولا يهديهم الى سواء السبيل ولا ينصرهم وهم من الضالين حتّى وان تسلّطوا على الأمّة (مثل معاوية) وقمعوا أو قتلوا مخالفيهم حتى وان كان مخالفوهم من العترة. ولهذا السبب توضح الجملة التالية في حديث غدير خم، هذه القضية بكل جلاء).
وكذلك نقلوا في باب مناقب الحسن والحسين، في كتب الحديث، ان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال لعلي بن ابي طالب وللحسن والحسين وفاطمة: انا سلم لمن سالمتم وحرب لمن حاربتم( ).
أي لو ان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان قدبقي حيّاً،لحارب من حاربوا فاطمة وعلياً والحسن والحسين، أي لحارب رسول الله فلاناً وفلاناً وعائشة ومعاوية ويزيد بن معاوية.
وهذه الجمل موجودة في روايات حديث الغدير التي ذكرت حادثة غدير خم بتمامها. ويتّضح موقف هذا الحديث من الصحابة والتابعين الذين سلّوا سيوفهم ضد علي.
ولا يفوتنا ان نشير الى ان علي بن ابي طالب اول مسلم من سابقي الصحابة وقد ذكر الله في كتابه الكريم: ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ﴾( ) انه اول المسلمين مرضي عند الله بقول مطلق. والرضا عن بقية السابقين (وبقية الصحابة والتابعين) مشروط بتبعيّتهم للأوّلين باحسان. واول مسلم آمن بالرسول من المهاجرين هو علي بن ابي طالب، وخديجة. ومن اسعد بن زرارة وذكوان. واما (الآخرون) الثاني والثالث وغيرهما (فلم يكن أي منهم من الاولين). والوحيد من هؤلاء الثلاثة الاوائل الذي بقي على قيد الحياة بعد رسول الله هو علي بن ابي طالب، الذي نصّت هذه الآية على ان اتباعه التام باحسان شرط لمن يريد مرضاة الله (ودخول الجنّة). أي ان الاتباع التام لعلي بن ابي طالب كان واجباً على جميع الصحابة حسب منطوق الآية المائة من سورة التوبة. في حين لم يكن من الواجب على عليٍّ بن ابي طالب اتباع أحد غير الرسول. وهذا هو الفارق الذي يميّز الامام المفترض الطاعة من غيره.
وقد نقل حتى امثال الطبري ان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال بشأن علي بن ابي طالب، حتى في الأيام الاولى التي آمن فيها بالله ورسوله، وكان اول القوم اسلاماً، حين دعا رسول الله بني هاشم الى وليمة في بيت ابي طالب (وسألهم النصرة على تبليغ هذا الدين)، وقال لهم: أيّكم يؤازرني على هذا الأمر على ان يكون اخي ووصيي وخليفتي فيكم؟ فاحجم القوم عنها جميعاً، ولم يستجب له الا علي بن ابي طالب. فأخذ برقبة علي وقال: ان هذا اخي ووصيي وخليفتي فيكم( ).
وقد ذكر محبو “آل رسول الله وعترة النبي” من أمثال الحموي وغيره الذين نقلوا حديث الغدير بتمامه ان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قد بيّن في غدير خم عدّة امور، وهي:
اولاً: ان النبي كان يقول على الدوام بأنه يكون بعدي اثنا عشر خليفة
(= اميراً = اماماً) كلهم من قريش( ). ولكنه لم يعيّنهم بأسمائهم قبل
غدير خم، وقد عيّنهم في غدير خم بأسمائهم.
ومن هم اولو الامر الذي ورد ذكرهم في الآية 59 من سورة النساء؟
﴿أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِى الاَْمْرِ مِنكُم﴾؟ وهذا ما بيّنه الرسول في خطبة غدير خم، وانهم اثنا عشر اماماً من العترة. (حيث كان يقول على الدوام يكون من بعدي أثنا عشر خليفة واميراً). وقد نقل البخاري ومسلم وغيرهم هذا الحديث الذي نصَّ على انه يأتي بعد الرسول اثنا عشر خليفة. حيث نقله البخاري في آخر كتاب الاحكام، ونقله مسلم في باب الإمارة. وهكذا غيرهما: يكون بعدي اثنا عشر خليفة ـ يكون بعدي اثنا عشر اميراً.
ومجمل القول هو ان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال ان علياً مولاكم اللهم انصر من نصره واخذل من خذله( ). وقال رسول الله ايضاً انني تارك فيكم شيئين ثمينين وثقيلين؛ احدهما القرآن والآخر عترتي أي اهل بيتي وهم أولو الامر والأئمة والخلفاء عليكم والخلفاء الاثنا عشر الذين ذكرتهم سابقاً وقلت بأنه يكون من بعدي اثنا عشر خليفة، وأول هؤلاء “الأئمة واولي الامر والخلفاء الواجبي الطاعة” هو علي بن ابي طالب وثانيهم الحسن، وثالثهم الحسين بن علي، ثم ابناء الحسين واحد بعد الآخر الى تاسعهم وهو “مهدي الأمة” الذي يظهر فيملأ الارض قسطاً وعدلاً. وهم لا يفترقون عن القرآن ولا يفترق القرآن عنهم حتى يردا عليَّ الحوض يوم القيامة( ). وما قصده رسول الله بقوله الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي هم هؤلاء العترة الهادية وهم الأئمة الاثنا عشر من العترة.
والذي نفهمه من منطوق حديث الثقلين وهو ان المتمسكين بالقرآن والأئمة من عترته، هم الناجون من الضلال. ان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يريد القول (في حديث الثقلين كتاب الله وعترتي) بأن كل “الائمة من غيرالعترة” ائمة ضلال من غير استثناء.
أما بالنسبة الى “النسائي” فقد نقل في خصائصه خلاصة لحديث غدير خم، ورغم ذلك فان هذه الخلاصة جاءت اكمل مما نقله “مسلم” واكمل مما نقله “البخاري” في تاريخه الكبير. ان ما نقله “النسائي” جاء في الحقيقة ملخّصاً جداً ونقل بالمضمون. وننقل في ما يلي نص ما كتبه النسائي في خصائصه في الفقرات التي ورد فيها حديث الثقلين:
“كأني دعيت فأجبت، واني تارك فيكم الثقلين احدهما اكبر من الآخر كتاب الله وعترتي اهل بيتي، فانظروا كيف تخلفوني فيهما فانهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض. ثم قال ان الله مولاي وانا ولي كل مؤمن ثم اخذ بيد علي فقال: من كنت مولاه فهذا وليّه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه”.
ونقل محمد بن سعد في “كتاب الطبقات” عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال:
“اني اوشك ان ادعى فاجيب واني تارك فيكم الثقلين كتاب الله و”عترتي” كتاب الله حبل ممدود من السماءِ الى الارض وعترتي اهل بيتي”( ).
“وان اللطيف الخبير اخبرني انهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما”.
نقل “الحاكم النيسابورى” أيضاً العبارات المذكورة آنفاً عن زيد بن ارقم.
ونقل “احمد” في مسنده عن طريق البراء بن عازب ما يلي:
“ألستم تعلمون اني اولى بالمؤمنين من انفسهم؟ قالوا: بلى. قال: الستم تعلمون اني اولى بكل مؤمن من نفسه؟ قالوا: بلى. قال: فأخذ بيد علي فقال: من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه”.
ذكرنا سابقاً ان خطبة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) في غدير خم كانت طويلة ومفصّلة، وقد نقل كل شخص قسماً منها. واكمل نقل جاء في المعجم الكبير للطبراني، وفي ما نقله الحموي في فرائد السمطين.
وكذلك نقل “احمد ابن حنبل” في المجلد الرابع من مسنده، في صفحة 281، و”الطبراني” في المجلد الثالث من تفسيره الكبير، في صفحة 636، و”ابن حجر” في صواعقه، و”الدار قطني”، و”البيهقي”، و”الخطيب البغدادي”، ان رسول الله بعد ذلك وضع عمامته على رأس علي وأمر الصحابة ان يهنئوه بذلك باعتباره أمير المؤمنين( ). واليك في ما يلي نص ما نقلوه:
“ثم ألبسه عمامته وعقد له موكباً وامر اصحابه بتهنئته ففعلوا وفي مقدمتهم “ابو بكر” و”عمر” يقولان بخ بخ لك يابن ابي طالب اصبحت وامسيت ولي كل مؤمن ومؤمنة”.
وهكذا فعل الصحابة وهنأوا علي بن ابي طالب وفي مقدّمتهم ابو بكر وعمر وباركوا له ولايته على الأمّة بعد رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): المهدي منا أهل البيت( )( ) وقال أيضاً: المهدي من ولد فاطمة( ) يعني ان المهدي من ائمة العترة “وائمة العترة” بعد علي بن ابي طالب تكون من ولد فاطمة الحسن والحسين ابنا فاطمة وبعدهما علي بن الحسين سبط فاطمة وبعده محمد بن علي الباقر وبعده جعفر ابن محمد الصادق وبعده موسى بن جعفر وبعده علي بن موسى وبعده محمد بن علي التقي وبعده علي بن محمد النقي الهادي وبعده الحسن ابن علي وآخرهم الثاني عشر من الائمة الاثنا عشر يكون المهدي.
الأيام الأخيرة من عمر رسول الله (صلى الله عليه وسلم)
لم تمضِ مدة طويلة على عودة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من الحج الى المدينة، أي بعد حوالي الشهرين دُسَّ له السُم ومرض على اثر ذلك، وكما استبان مما أُخِبرَ به عن طريق الوحي ان مرضه هذه المرّة ينتهي به الى الوفاة. فكان رسول الله آنذاك يقضي الأيام الاخيرة من حياته. وكان من الواضح ان محبّي الرئاسة كانوا يترقّبون وفاته من اجل الاستيلاء على السلطة بقوّة السيف بعد وفاته لتكون لهم الرئاسة على المسلمين. ومن هنا فقد كانوا يتتبعون مرض رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بدقّة تامّة، ولم يبتعدوا عن المدينة ولا حتى عن اطراف منـزل رسول الله. لكي يتسنّى لهم استغلال الفرصة بعد وفاته والمبادرة على الاستيلاء على السلطة بالتعاون مع حلفائهم.
وفي تلك الاثناء أمر رسول الله فجأة بتجهيز جيش بقيادة شاب اسمه اسامة وأمر ان يلتحق بهذا الجيش كبار الصحابة من امثال ابي بكر وعمر، وان يسير الجيش نحو تخوم بلاد الروم، وكان مكاناً بعيداً جداً( ).
وقد حاول ابو بكر وعمر ان لا يذهبا برفقة هذا الجيش بحجة قلقهما على رسول الله وهو في هذه الحالة الخطيرة من المرض. لكن النبي امرهم ان يلتحقوا كلهم بهذا الجيش من غير استثناء ويسيروا نحو حدود بلاد الروم ويبتعدوا عن المدينة بأسرع ما يمكن.
واقام اسامة معسكراً خارج المدينة ليلتحق به افراد الجيش ويسير بهم عندما يجتمع إليه العدد الكافي منهم. ولكن ابا بكر وعمر تركا معسكر اسامة ورجعا الى المدينة والى منزل النبي. ولما رأى النبي انّهما رجعا تألّم واكّد عليهما مرّة اخرى بالالتحاق بجيش اسامة بأسرع ما يمكن وقال: جهّزوا جيش اسامة،لعن الله المتخلّف عن جيش اسامة( ).
كان من الواضح لكل ذي حنكة سياسية ان النبي كان يريد في هذا الوقت الذي شارف فيه على مفارقة الدنيا ان يبقى افضل الفرسان، وهو علي بن ابي طالب الى جانبه، ويريد في الوقت ذاته ارسال ابي بكر وعمر الى موضع بعيد عن العاصمة (وكان يريد لهما الخروج في اسرع وقت من المدينة والسير في ركب جيش اسامة الى مواضع بعيدة. وانه كان يريد من وراء ذلك ان تنتقل قيادة الامّة بعد وفاته ـ التي ظهرت علائم قربها ـ الى علي بن ابي طالب بسهولة وبدون وجود منافسين. خاصّة وانه لم يجعل قيادة هذا الجيش الى ابي بكر وعمر، وانما جعل قيادته الى شاب اسمه اسامة، لكي لا تكون لديهما حجة او ذريعة بأن علي بن ابي طالب اصغر منّا سناً واننا اكبر منه سناً واولى بقيادة الامّة. وكانت في عمل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) هذا اشارة واضحة الى ان الصحابة المنضوين تحت امرة هذا الجيش لا يصلحون حتى لقيادة هذا الجيش، فما بالك بقيادة الامّة.
موقف عمر، اثناء وصية النبي
عندما اراد رسول الله في آخر ايام حياته ان يكتب وصية للامة لكي لا تتفرق من بعده ولا تضل، ولكنه تألم عندما شاهد فجأة ان ابا بكر وعمر اللذين أُمرا بالالتحاق بجيش اسامة والسير في ركبه الى موضع بعيد، والابتعاد عن المدينة، قد رجعا مرّة اخرى وحضرا في مجلسه.
وقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): اعطوني دواة وكتفاً لأكتب لكم ما لا تضلون بعده.
وهذه الجملة التي قالها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) شبيهة تماماً بما قاله في الحج وفي غدير خُم حيث قال هناك: اني تارك فيكم شيئين: القرآن وعترتي، “ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا ابداً”. وما ان سمع الحاضرون هذه الجمل من رسول الله “لأكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده ابداً” حتى تذكروا ما قاله حول الثقلين في الحج وفي غدير خم، ومنهم عمر بن الخطاب الذي كان بين الحاضرين وادرك بأنّه لو تحوّلت هذه الوصية الى شيء مكتوب، لما بقي هناك مجال لاستيلاء ابي بكر وعمر على السلطة. ولهذا السبب سارع عمر الى القول بأن الوجع غلب على النبي وانه يهذي، وحسبنا كتاب الله، أي انه لا حاجة لوصية رسول الله. فصار قسم من الحاضرين يؤيد ما قاله النبي، وقسم يؤيد ما قاله عمر، واختلف الناس فاستاء النبي من تنازع القوم، وقال لهم: “لا ينبغي التنازع عند نبي، قوموا عنّي”( )، أي انني غير راض عنكم ولا اريد رؤيتكم.
هذا الحديث المتواتر نقله كل المسلمين، ونقله من عامة المسلمين، البخاري في كتابه المعروف، في كتاب العلم، وفي كتاب الاعتصام بالكتاب والسنّة، وفي كتاب بدء الخلق، وأيضاً في كتاب المرض في باب قوموا عنّي، نقل ذلك عن ابن عباس كما يلي:
“لما حضر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الوفاة وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب قال النبي (صلى الله عليه وسلم) “هلم اكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده”. فقال عمر: “ان النبي قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله”. فاختلف اهل البيت فاختصموا منهم من يقول قربوا يكتب لكم النبي (صلى الله عليه وسلم) كتاباً لن تضلوا بعده ومنهم من يقول ما قال عمر فلما اكثروا اللغو والاختلاف عند النبي (صلى الله عليه وسلم). “قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قوموا”.
ونقل البخاري أيضاً في كتاب الجهاد والسير ما يلي:
“فقال ائتوني بكتاب اكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده ابداً فتنازعوا ولا ينبغي عند نبيّ تنازع. فقالوا: هجر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال دعوني فالذي انا فيه، خير مما تدعوني اليه”( ).
ومعنى كلام رسول الله (صلى الله عليه وسلم) هو ان الموت خير لي من ان اريد ان اكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده الى يوم القيامة وانتم (الذين تخالفوني) لا تريدون ان اكتبه لكم. وقد نقل البخاري هذا الحديث في باب الجزية والموادعة، وفي كتاب بدء الخلق.
ونقل مسلم أيضاً في كتاب الوصية، في باب ترك الوصية، ونقل احمد أيضاً في مسنده عن طريق جابر بن عبد الله الانصاري. ونقل محمد بن سعد في “الطبقات الكبرى” عن زيد بن أسلم متن اكمل، عن ابيه عن عمر بن الخطاب كما يلي:
كنا عند النبي (صلى الله عليه وسلم) بينا وبين النساء حجاب فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) اغسلوني بسبع قرب وائتوا بصحيفة ودواة اكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده ابداً فقال النسوة ائتوا رسول الله بحاجته (قال عمر) فقلت أسكتـنَ فانّكنَ صواحبه اذا مرض عصرتنّ اعينكنّ واذا صح اخذتنّ بعنقه.
فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) “هنّ خير منكم”. أي ان النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: ان النساء أفضل منكم انتم الصحابة المخالفين لي( ).
ونقل ذلك كل من الهيثمي في مجمعه في المجلّد التاسع، والطبراني في المعجم الاوسط، والمتقي الهندي في كنز العمال، ج3، ص 138.
تساؤلات حول هذه الحادثة:
1ـ هل يكفي القرآن حقاً للحفاظ على وحدة المسلمين على طريق الحق، ولا حاجة لبيان أو وصية رسول الله؟ والجواب عن ذلك انه من غير الممكن ان يقول مسلم بأننا بوجود القرآن لا نحتاج الى السنة، او ان القرآن يكفي لصيانة وحدة المسلمين الى يوم القيامة، لأنه لو كان القرآن وحده كافياً لحفظ وحدة الأُمّة على طريق الحق، لما وقعت الامّة في هذا الاختلاف والانشقاقات المذهبية والفئوية. ولو افترضنا بأنّها عندما تقع في الاختلاف يمكنها ان تحلّه بمجرد العودة الى القرآن، فأنّى يمكن لنا القول بأن القرآن كاف وحده لازالة الاختلاف، في حين ان تفسير القرآن فيه اختلاف، وكل واحدة من فرق المسلمين تتمسك بظهور من ظهورات القرآن لاثبات مدّعاها وصحة مذهبها، وتوظف القرآن لاظهار الحق الى جانبها.
نذكر على سبيل المثال ان احداها تستفيد من ظهور آيات لاثبات عقيدة الجبر، بينما تتمسك اخرى بآية غيرها لإبطال عقيدة الجبر، وتتمسك فرقة اخرى بآية لاثبات تجسيم الله، وتتشبّث فرقة اخرى بآية غيرها لاثبات بطلان التجسيم، وما شابه ذلك.
وكيف يكفي القرآن من غير الرجوع الى بيان النبي، في حين أن أياً من الاحكام الالهية كالصلاة والصوم والزكاة والحج وغيرها لا يمكن فهم شروطها ومكوّناتها واوقاتها من القرآن؟ أي انه لا يمكن الاستغناء عن اقوال النبي في ذلك (باعتباره مفسّراً ومبيّناً للقرآن).
وقد صرّح الباري تعالى في كتابه الكريم بأن القرآن يحتاج الى توضيح وبيان النبي بقوله:
﴿وَ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾( ).
﴿وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾( ).
إذاً لقد اراد عمر او يُحتمل انه اراد ان يقول بهذه الجُمل ان رسول الله مريض، وقد فقد عقله وهو يهذي. والسؤال الذي يُوجّه الى عمر هنا هو هل يمكن من الرسول الهذيان في قضية تتعلق بهداية وضلال الامّة الى يوم القيامة، وقد قال عنه القرآن ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾؟
وهنا يتبادر الى الأذهان سؤالان، هما: هل قول كل مريض في حال المرض مرفوض مطلقاً؟ والجواب هو ان هذا الكلام باطل، وذلك لأن العقل مادام متزناً فكلام الإنسان مقبول، والمرض لا يمنع من ذلك. وقد قال البخاري في باب وصيّة المريض انه حتى ايماءة المريض حجّة. ولكن ربّما كان عمر يقصد ان الرسول فقد عقله من شدة المرض والعياذ بالله، ولاسيما في قضية تتعلق بهداية الامّة الى يوم القيامة؟
نبحث في ما يلي قول عمر من جانبين: احدهما من جانب ما يقوله القرآن عمّا ينطق به النبي، وهل من الممكن ان ينطق عن هذيان أو عن هوىً” وخاصة في ما يتعلّق بهداية الأمّة؟ يقول القرآن: هذا غير ممكن، فقد ورد في سورة النجم: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ أي مايقوله النبي وخاصة في مايتعلّق بهداية الأمّة ليس إلاّ وحياً ولا يأتي عن هوى ونزوة، ولا يمكن ان يكون هذياناً، لأن الله عز وجل يقول: ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾.
اذاً فمن يقول بأن كلام النبي هذيان ـ ولو لمرّة واحدة (وخاصة في ما له صلة بهداية الأمة) ـ وما يعنيه ذلك من انه ليس وحياً، فقوله مخالف لقول القرآن.
اما اذا بحثنا قول عمر من الناحية العقلية والعرفية فهو ان الهذيان يصدق على من يُحتمل منهم الهذيان، طبعاً فيما اذا صدر منهم كلام يخالف العقل. ولكن كلام رسول الله لم يكن مما يخالف العقل، اذ انه لم يكن سوى تكرار لجمل من حديث الثقلين، ومما كان النبي قد قاله من قبل في موسم الحج وفي غدير خم، أي ما إن تمسكت به الامة فلن تضل الى يوم القيامة، وهذا قول سبق ان اعلنه الرسول في الحج وفي غدير خم، وكان عمر حاضراً هناك ولم يُقل ان النبي يهذي، لأنه كان بين مائة ألف من المسلمين الذين كانوا قد قَدِموا من مختلف بقاع العالم الاسلامي، ولو سمعوا كلاماً مغايراً للواقع بشأن الرسول لعاقبوا قائله شر عقاب. خاصة وان اكثرية الجموع التي حضرت يومذاك كانت قادمة من المدن الاخرى ولم تكن تعرف شخصاً آخر غير رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
وعلى أية حال لم يظهر عمر مخالفة هناك، بل تفيد بعض الروايات انه هنّأَ علياً بمناسبة تعيينه ولياً للمسلمين. إذاً فما قاله النبي اثناء مرضه لم يكن مما يخالف العقل.
ولو نظرنا الى موقف عمر من وصيّة أبي بكر في اثناء وفاته، وهل ان عمر لا يجيز حقاً وصية المريض حين وفاته، أم ان ذلك الموقف الحساس اتّخذه عمر بخصوص وصية رسول الله التي كان يريد فيها ان يوصي بالعترة؟
نلاحظ ان ابا بكر لم يكن في حالة طبيعية ـ كما حكى عمر نفسه ـ وقد أغمي عليه عدّة مرات اثناء الوصية. وقد اوصى ابو بكر بخلافة عمر من بعده وهو في حالة من الصحو والغيبوبة ـ كما نقل عمر نفسه ـ وقد كتب عثمان بن عفان الاموي وصيّة ابي بكر بحضور عمر.
ولم يمنع عمر من كتابة وصية ابي بكر مع ما كان عليه من حالة المرض الشديد حيث كان بين الصحو والغيبوبة، ولم يصفه بالهذيان. في حين ان الهذيان ممكن لغير النبي. والهذيان غير ممكن من الرسول فقط (وخاصة في ما يتعلّق بهداية الأمّة)، بل ان كلام النبي ـ وفقاً لقول الله تعالى ـ ليس الا وحياً.
إذاً ينبغي الرجوع الى مفاد الوصيّتين وملاحظة الفارق بينهما، لمعرفة ما هو الفارق المائز بينَ وصية النبي ووصية ابي بكر، بحيث حرص عمر على منع كتابة وصية النبي ولم يمنع كتابة وصية أبي بكر.
موقف عمر اثناء وصيّة ابي بكر:
كان محتوى وصية أبي بكر استخلاف عمر بن الخطاب من بعده. وأما محتوى وصية النبي فلم يكن تفويض الرئاسة لعمر ولا لابي بكر. بل كانت كتابة هذه الوصية حول العترة، وكان الرسول قد أدلى بها شفاهاً في موسم الحج وفي غدير خم، ومن الطبيعي ان كتابتها كانت ستؤدّي الى تفويت الفرصة على الجماعة العمرية ومنعها من الاستيلاء على السلطة من بعد رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وذلك لأنه ورد في حديث الثقلين ان حفظ الامة من الضلال انما يكون بالاتّباع التام للعترة، أي الاتباع التام لعلي بن ابي طالب وابنائه من ذريّة النبي، وعند ذاك لا تبقى أية فرصة لتسلط ورئاسة الجماعة العمرية على الامة (سواء ابي بكر وعمر) وهذا هو محتوى وصية رسول الله (صلى الله عليه وسلم) التي أغضبت عمر.
إذاً ليس هناك من حجّة على الله ورسوله في الاعلان عمّا ينبغي ان تتمسّك به الأُمّة لكي لا تضل الى يوم القيامة، وكما قال الله العظيم في كتابه الكريم:
﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ﴾( ).
ان اتباع الامّة لغير العترة الهادية يعني اتباعهم لأبي بكر وعمر اللذان فصلا القيادة السياسية عن العترة أي عن القيادة العلمية، وادّيا الى استبعاد العترة الهادية ومهّدا السبيل لمجيء بني أُمية الى الحكم مثل عثمان الاموي ومعاوية، وهو ما انتهى بالنتيجة الى وقوع حرب اهلية بين المسلمين وبلغت الفرقة غايتها، وقسِّمت الامة الاسلامية الى أجزاء صغيرة وغدت ضعيفة امام الكفار وواهنة حتى في مقابل ستة ملايين من اليهود.
تقسيمات المهاجرين:
1ـ فئة قربى رسول الله الذين كانوا أشد حماته والذابّين عنه، وهم بنو هاشم الذين لم يفارقوا النبي حتى في مكّة قبل الهجرة ولا حتى في شعب أبي طالب.
2ـ الفئة الثانية: مهاجرو قريش من غير بني هاشم. وكانوا قبل الهجرة يتظاهرون بالاسلام أمام النبي، ولكنهم لم يؤازروه ابداً في شعب أبي طالب، بل انهم تعاونوا مع المشركين عملياً في الحصار الاقتصادي ضد بني هاشم. وبعد الهجرة أيضاً اتخذوا موقفاً معارضاً من معركة بدر وما كانوا يريدون لها ان تحصل لأنّهم كانوا يكرهون محاربة اقاربهم القرشيين. وقد ورد وصف ذلك الحال في اول سورة الانفال في قوله تعالى: ﴿لَكَارِهُونَ * يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ﴾( ) وفي معركتي احد وحنين فروا من ساحة المعركة بمجرّد ان شعروا بهزيمة المسلمين( )، وتركوا النبي بين الاعداء. بل
انهم اسرّوا البغض والضغينة لبني هاشم بعد مقتل اقاربهم على يد النبي وبني هاشم في معركتي بدر واحد، مثلما حقد اقاربهم في مكّة على بني هاشم. وحتى بعدما اجبروا على التظاهر بالاسلام في اعقاب فتح مكّة بقي بعضهم مثل “بني أمية وبني مخزوم يحملون في قلوبهم ذلك الحقد والبغض لرسول الله ولبني هاشم وخاصة علي بن ابي طالب، وبقوا يتحيّنون الفرص للثأر من بني هاشم لدماء اقاربهم المشركين الذين قتلوا في معركتي بدر واحد”.
وصف العباس بن عبد المطلب للنبي حالة قريش في التعامل مع بني هاشم قبل وبعد معركتي بدر وأحد، على النحو التالي: دخل العباس بن عبد المطلب على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) مغضباً وانا عنده فقال: ما اغضبك؟ قال يا رسول الله ما لنا ولقريش اذا تلاقوا بينهم تلاقوا بوجوه مبشرة واذا لقونا لقونا بغير ذلك، قال (ربيعة) فغضب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حتّى احمرّ وجهه ثم قال: والذي نفسي بيده لا يدخل قلب رجل الايمان حتى يحبكم لله ولرسوله. ثم قال: يا ايها الناس من آذى عمّى فقد آذانى فانما عمّ الرجل صنو ابيه( ).
3ـ الفئة الثالثة: المهاجرون من غير قريش، من امثال عمار بن ياسر وابوه وامه الذين كانوا من اليمن أصلاً، والمقداد بن الأسود، وبلال الحبشي، وغيرهم. ولم يكن هناك ثمة عداء بين هذه الفئة (اي المهاجرين من غير قريش) وبين بني هاشم، الا اللهم من كان أصلهم من يهود خيبر ومن لف لفّهم، اذ ان هؤلاء اليهود قد اسرّوا في قلوبهم الحقد والضغينة بسبب مقتل أقاربهم من اليهود بأيدي المسلمين وخاصة علي بن ابي طالب، فأبغضوه وابغضوا بني هاشم. وهنالك أيضاً الفئة التي خرجت من ديارها من اجل الاستيلاء على الرئاسة والسلطة، وتنازعوا في السقيفة، وكان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال لهم: “ستحرصون على الامارة وتكون ندامة يوم القيامة”.
ننقل ما يلي نص قول عمر بن الخطاب (وقد وردت فيه كلمة مخالفة علي من العترة لسلطة ابي بكر) الذي ورد في كتب الحديث، حيث جاء في ابواب الحدود، في باب حد رجم الحبلى، ما يلي( ):
ثم انه بلغني ان قائلاً منكم يقول والله لو مات عمر بايعت فلاناً، فلا يغترنّ أمرءٌ ان يقول انما كانت بيعة ابي بكر فلتة وتمت قد كان من خبرنا حين توفّى الله نبيّه (صلى الله عليه وسلم) “ان الانصار خالفونا” واجتمعوا باسرهم في سقيفة بني ساعدة و “خالف عنا علي( ) والزبير ومن معهما” واجتمع المهاجرون( ) الى ابي بكر فقلت لابي بكر: انطلق بنا الى اخواننا هؤلاء من الانصار. فانطلقنا نريدهم فلما دنونا منهم لقينا رجلان منهم صالحان فذكرا ما تمالأ عليه القوم فقالا: اين تريدون يا معشر المهاجرين؟ فقلنا: نريد اخواننا هؤلاء من الانصار. فقالا: لا عليكم ان تقربوهم، اقضوا امركم. فقلت: والله لنأتينهم. فانطلقنا حتى اتيناهم في سقيفة بني ساعدة فاذا رجل مزمّل بين ظهرانيهم فقلت: من هذا؟ قالوا: سعد بن عبادة. فقلت: ما له؟ قالوا: يوعك. فلمّا جلسنا قليلاً تشهد خطيبهم فاثنى على الله بما هو اهله ثم قال:
“اما بعد فنحن انصار الله وكتيبة الاسلام وانتم معشر المهاجرين رهط وقد دفّت دافة من قومكم”، فاذا هم يريدون ان يختزلونا من اصلنا وان يحضنونا من الامر فلما سكتَ اردت ان اتكلم وكنت زودت مقالة اعجتني اريد ان اقدمها بين يدي ابي بكر، وكنت اداري منه بعض الحدّة. فلما اردت ان اتكلم قال ابو بكر على رسلك، فكرهت ان اغضبه. فتكلم ابو بكر وكان هو احلم مني واوقر. والله ما ترك من كلمة اعجتني في تزويري الا قال في بديهتها مثلها او افضل حتى سكت. فقال: ما ذكرتم فيكم من الخير فانتم له اهل، ولن يعرف هذا الامر الا لهذا “الحي من قريش” هم اوسط العرب نسباً وداراً وقد رضيت لكم احد هذين الرجلين فبايعوا ايّهما شئتم فاخذ بيدي وبيد ابي عبيدة بن الجراح ـ وهو جالس بيننا فلم اكره مما قال غيرها، كان والله ان اقدم فاضرب عنقي لا يقربني ذلك من اثم احب الي من ان اتأمّر على قوم فيهم ابو بكر اللهم الا ان تسول اليّ نفسي عند الموت شيئاً لا اجده الان.
فقال قائل الانصار:
«انا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب منا امير ومنكم امير، يا معشر قريش”. فكثر اللغط و”ارتفعت الاصوات” حتى فرغ من الاختلاف (قلت): ابسط يدك يا ابا بكر. فبسط يده فبايعته وبايعه المهاجرون ثم بايعته الانصار. ونزونا على سعد بن عبادة، فقال قائل منهم: قتلتم سعد بن عبادة. فقلت: قتل الله سعد بن عبادة.
والموضوع الذي يجب ان يبحث في هذا النص المتواتر الذي نقله البخاري ومسلم هو ما قاله ابو بكر وعمر في السقيفة من اجل ازاحة الانصار واستبعادهم عن الخلافة، حيث استندوا في ذلك الى قرابتهما من رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، اذ قال ابو بكر وعمر للانصار: “فاذا هم يريدون ان يختزلونا من اصلنا وان يحضنونا من الامر ولن يعرف هذا الامر الا لهذا الحي من قريش”. مع ان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: “يُهلكُ الناسَ هذا الحي من قريش”( ). والذي يشير إليه قول رسول الله (صلى الله عليه وسلم) هذا في المدينة من القريش ليس الا المهاجرين من قريش.
وعند مناقشة هذا القول تتبادر الى اذهاننا عدّة تساؤلات منها:
اولاً: استدل ابو بكر بالنسب والقرابة من رسول الله لاستحقاق الخلافة، فان كان الأمر كذلك فعلي بن ابي طالب احق الناس بها لأنه اقرب الناس قرابة الى رسول الله( ) وهو اقرب إليه من ابي بكر وعمر، وكان دفاعه عنه اكثر في شعب ابي طالب وفي المعارك والغزوات.
ثانياً: ان كانت الخلافة لا تكون الا في قريش، فلماذا قال عمر اثناء وصيّته الى شورى الخلافة: لو كان سالم مولى ابي حذيفة (وكان من انصاره على هضم السلطة) حياً لاستخلفته، ولو كان ابو عبيدة حياً لاستخلفته. ولما جعلت الخلافة الى الشورى، مع ان سالم مولى حذيفة كان اعجمياً غير عربي، فما بالك بان يكون قرشياً، أي ان سالم لم يكن من قريش( ).
وقال عمر أيضاً: لو كان معاذ بن جبل حياً لاستخلفته( ) ولما جعلتها الى الشورى. في حين ان معاذ بن جبل كان من الانصار وليس من قريش، بينما قال ابو بكر وعمر في السقيفة بأن الخلافة لقريش وليس للانصار. اذاً فكيف قال عمر عند وفاته: “لو كان سالم مولى حذيفة حياً لاستخلفته، او لو كان معاذ بن جبل حياً لاستخلفته”، مع انهما لم يكونا من قريش.
ثالثاً: اوصى ابو بكر بالخلافة الى عمر. وهذا العمل مخالفة صريحة من أبي بكر لسنّة رسول الله (صلى الله عليه وسلم). وذلك لأنه إن كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قد عين عليَّ بن ابي طالب في غدير خم خليفة من بعده، فلماذا عارض ابو بكر وعمر وحالا دون وصول علي الى الخلافة؟ وان كانت سيرة رسول الله عدم تعيين خليفة من بعده، (وعدم الوصيّة الى أحد بعينه) وترك الأمة لتختار من ترتضيه، فلماذا لم يترك ابو بكر الأمر للامّة لتختار من بعده من تشاء؟ ولماذا خالف ابو بكر وعمر سيرة النبي أيضاً؟
وكذلك خالف عمر وصيّة النبي اثناء وفاته (عندما طلب النبي القلم ليكتب الوصية)، بينما لم يُخالف كتابة وصية ابي بكر، في حين كان ابو بكر في حالة مرض شديد بحيث كان يُغمى عليه بين الحين والآخر.
رابعاً: ان ما طُرح في السقيفة “عبارة عن ان كل فريق كان يريد الرئاسة لنفسه”. أي انه كان عبارة عن حب الرئاسة، والأنانية، والمنافع الشخصية. وهذا ما ظهر بكل وضوح من خلال العبارات التي نقلها عمر نفسه حول السقيفة حيث قال بأن الانصار كانوا يريدون الخلافة لأنفسهم، بينما كان المهاجرون الذين حضروا السقيفة يريدونها لأنفسهم. ولم يكن أي من هذين الفريقين يفكّر بمصلحة اكثرية الأمة ولا مصالح الاسلام ولا باستفتاء رأي المسلمين بشكل محايد ولا اتباع وصايا النبي الذي اوصى بعدم مفارقة القرآن والعترة، حيث كانت عترة رسول الله ـ حسبما نقل عمر ـ أي علي بن ابي طالب، في الجهة المعارضة تماماً لخلافة ابي بكر وعمر.
واما اتباع السلاطين الذين كانوا يريدون اضفاء المشروعية على حكم ابي بكر من خلال التمسّك بآية الشورى، فلابد من الردّ عليهم بالقول:
1ـ ان ابا بكر وعمر ما كانا يعتقدان “بانتخاب الحكومة من قبل الامّة” ولهذا السبب لم يفوّض أي منها قضية اختيار خليفته الى الامّة، بل ان ابا بكر اوصى لعمر بالخلافة مثلما اعلن عمر نفسه. كما ان عمر لم يترك الأمر للامّة لتختار من ترضاه وانما عين ستّة اشخاص وامرهم ان يختاروا واحداً من بينهم، وكان من الواضح حتى قبل ان تجتمع بأنها ستختار عثمان، لأنه لم يجعل أياً من اصحاب علي من امثال ابي ذر وعمار بن ياسر وغيرهما في تلك الشورى، في حين كان في تلك الشورى المؤلّفة من ستة اشخاص ثلاثة يُحسبون على بني امية، وهم عثمان الاموي، والآخر صهر عثمان وهو عبد الرحمن بن عوف، والثالث ابن عم صهره وهو سعد بن ابي وقّاص الذي كان اموياً أيضاً من جهة امّه، ولم يكن موالياً لعلي بل بالعكس كان شديد البغض له. ولذلك لم يبايع علياً بعدما صار علي بن ابي طالب خليفة. والشخص الآخر هو طلحة ابن عم ابي بكر الذي كان يبغض علياً واثبت بغضه له لاحقاً في محاربته له في معركة الجمل. وكما نقل الطبري في قصّة الشورى العمرية، ان عمر قال لهم اذا انقسمت الشورى الى مجموعتين متساويتين، فالرأي للمجموعة التي فيها (صهر عثمان وهو) عبد الرحمن بن عوف. واضربوا رقبة من يكون في الأقلية (ويبدو ان هدف عمر من ادخال علي في مثل هذه الشورى هو ان يكون مع الأقلية ويقتل).
اذاً لم يكن ابو بكر ولا عمر يعتقدان بالشورى والانتخاب الحر. ولهذا قلنا لو انهما كانا يعتقدان بمثل هذا المبدأ لترك ابو بكر الامر للمسلمين ولم يوص بالخلافة لعمر. ولو كان عمر يؤمن بالانتخابات الشعبية لكان:
أولاً: لم يعمل بوصية ابي بكر، او كان على الاقل يخالفها مثلما خالف وصية رسول الله، ويترك الامر للناس.
ثانياً: يترك للناس الحرية من بعده ولا يفرض عليهم تلك الشورى الخاصّة، التي كانت نتيجتها فرض عزلة على علي ابن ابي طالب في تلك الشورى، واختيار عثمان.
ثالثاً: يجلس في داره من بعد رسول الله، بدلاً من منازعة الانصار، ومخالفة علي (وهو من العترة الهادية)، ليرى من الذي يختاره الناس وباب من يطرقون ومن يتّبعون. كان البعض يقول لو ان عمر كان يعلم بأنَّ الناس يقصدون دارهم وليس دار علي بن ابي طالب (المضحّي لرسول الله وله منه موقع كموقع هارون من موسى) لجلس في داره قطعاً. ولكن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال لهم من قبل: “ستحرصون على الامارة وتكون ندامة يوم القيامة”.
ولكن اكثرية الناس التي كانت من غير قريش، سواء من الانصار أو من سائر الناس أو غيرهم كانوا يريدون علياً في قرارة نفوسهم. ومع انهم لم يتحركوا ضد هؤلاء المتآمرين خوفاً على ارواحهم، بيد انهم ثاروا عند انتهاء مدّة حكم رؤوس المتآمرين وخلعوا عثمان المنصوب من قبل حكومة المتآمرين، وقصدوا دار عليّ وانصاعوا لقيادته. ولكن كان الوقت متأخّراً، وذلك لأن معاوية الاموي المنصوب من قبل ابي بكر وعمر على بلاد الشام كان قد اخضع تلك البلاد لسلطته تماماً، وكان يرفض الانصياع لحكومة علي.
واما عائشة (التي ضرب الله لها ولحفصة مثلاً في سورة التحريم بامرأة لوط وامرأة نوح) فما كانت قادرة ابداً على الرضا بحكومة علي. ورغم ان الله قد أمرها كزوجة للنبي في سورة الاحزاب ﴿وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ﴾ الا انها تمرّدت على علي وتحالفت مع اعداء علي في الحجاز وتآمرت مع معاوية ولم تترك حكومة عليّ تبسط سلطتها على كل ارض الاسلام او تستتب لها الامور. واخيراً وفي اعقاب مقتل علي على يد الخوارج ـ وهي الحركة التي افرزها هذا التمرد وهذه الحروب ـ تسلّط الامويون على المسلمين ثانية.
وعلى اية حال، فان انثيال الناس من بعد عثمان على دار علي وليس دار أحد آخر، يكشف بحد ذاته على مدى محبّة المسلمين له. كما ان ثورة المسلمين على اثر شهادة الحسين بن علي، والقضاء على بني أميّة بيد الموالين للحسين بن علي (سبط رسول الله) يدل على مدى الوجاهة بين المسلمين لعلي واولاده من آل محمد. ولذلك لو لم يخالف ابو بكر وعمر علياً والعترة الهادية منذ البداية، وفوّضوا زعامة المسلمين (طبقاً لوصايا النبي) بتمامها وكمالها الى علي بن ابي طالب والائمة من عترة آل محمد، لما حصلت اية فرقة وضلال يهدد الاسلام ـ كما صرّح بذلك نبي الله ـ بل لكان قد اتيح لعلي بن ابي طالب ان يبسط حكومة العدل التام ولجعل العالم كلّه ينعم بالعدل في ظل حكومة العدل الاسلامي الصحيح، ولما كانت هناك ذريعة بيد اعداء علي باسم مقتل عثمان.
2ـ فضلاً عن قول الله تعالى في سورة الاحزاب:
﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً﴾.
أي ان رأي الناس واختيارهم انما يكون حيث لم يأمر الله ورسوله بأي حكم. ولكن حيثما أمر الله ورسوله بشيء، مثل الامر بخلافة العترة الهادية: وهم علي (واولاده الأحد عشر من آل محمد بأمر الله ورسوله)، لا يبقى هناك ثمة موضع لرأي واختيار الامّة في مقابل امر الله ورسوله، لكي يختاروا شخصاً آخر. ولكن خلاصة الأمر هي ان ابا بكر وعمر ما كانا يعتقدان بآيات الشورى ولم يستندا اليها ولم يحتجّا بها، وانّما اوصيابالخلافة لكي لا يتسنّى للناس ان يختاروا من يرتضون للخلافة، هذا اولاً. وأما ثانياً: فحتى لو اختار الناس من يشاؤون فان الله تعالى قد قال في سورة الأحزاب:
﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَة﴾.
وقد بين الله للناس واجبهم عندما امرهم بطاعة العترة، ولا يحق لأحد ان يخالف امر الله بأن يختار احداً آخر من غير عترة النبي.
ـ ادّعى فريق آخر بأن خلافة ابي بكر حظيت في ختام الامر بقبول جميع الصحابة واصبحت موضع قبول واجماع الامّة كلّها، وحتى علي بايع ابا بكر. وهذا القول ينقضه عمر نفسه في ما قاله حول منازعته للانصار في السقيفة، ومخالفة علي وانصاره له، حيث قال عمر صراحة: “لقد خالفنا علي واصحابه، وخالفنا الانصار أيضاً”. اضافة الى ان رئيس الانصار من الخزرج، أي سعد بن عبادة لم يبايع أبا بكر وعمر قط الى ان اغتيل. واصابع الاتهام موجهة الى عمر في انه كلّف المغيرة بن شعبة بقتله، وقد قُتِل في الطريق واشيع بأن الجن هم الذين قتلوه (في حين لا يقر أي عاقل بأن الجن ترمي احداً سهماً وتقتله).
أما بالنسبة الى عليٍّ فقد هجموا على داره( ).
اضافة الى ذلك يعني ان الاجماع لم ينعقد على خلافة ابي بكر فقد ورد في كتب الحديث في باب حد رجم الحبلى، ان بيعة ابي بكر عن قول عمر كانت فلتة، أي ان اجماع الامة في زمن عمر بن الخطاب كان على ان بيعة ابي بكر كانت فلتة.( )
ملحقات الكتاب
سورة الأحزاب، الآية 33
﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾.
هذه الآية شبيهة تماماً بالآية التاسعة والعشرين من سورة يوسف في تغييرها لوجهة الخطاب:
﴿يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَ اسْتَغْفِرِى لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ﴾.
فقد جاء الخطاب في اول الآية 29 من سورة يوسف، بصيغة المذكّر ﴿يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا)ثم تغيّر الخطاب فجأة الى صيغة المؤنث ﴿اسْتَغْفِرِى لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئينَ﴾. وكذلك ورد الخطاب في اول الآية 33 من سورة الاحزاب بصيغة جمع المؤنّث، اضافة الى ان كلمة “بيوت” التي اضيفت اليهن وردت بصيغة الجمع، ولكن آخر الآية جاء الخطاب بصيغة جمع المذكّر مرّتين. ووردت كلمة البيت بصيغة المفرد المحلّى بالالف واللام وهو يفيد ان المراد هو بيت معروف بعينه، وليس كلمة بيوت التي وردت بصيغة الجمع (والمقصود من كلمة بيوت في اول الآية، بيوت زوجات النبي) وانما قصدت بيتاً معيّنا ً( ) واكثر المخاطبين في هذا البيت من الذكور. ولهذا ورد الخطاب في هذه الآية بصيغة ضمير المذكر، وهم كما جاء في الحديث المتواتر: النبي، وعلي، والحسن بن علي، والحسين بن علي، وفاطمة الزهراء سيدة نساء اهل الجنّة.
﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾.
الوجه الآخر من الشبه بين الآيتين المذكورتين آنفاً هو ان الخطاب الى يوسف (في سورة يوسف) جاء من غير تعريض بالضعف واظهار الخطأ من يوسف، واما في الخطاب الى زليخا ففيه تعريض بضعفها واظهار خطئها.
﴿يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا﴾ـ ﴿وَ اسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئينَ﴾.
وفي الآية 33 من سورة الاحزاب وكذا الآيات التي سبقتها، جاء الخطاب الموجّه الى زوجات الرسول فيه تعريض واضح بحب البعض منهن للدنيا، واحتمال وقوعهن في فاحشة مبينة.
﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً﴾. ﴿وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً﴾.
والظاهر من معنى هذه الآية انها قسّمت نساء النبي بحرف «من التبعيضية» الى قسمين: قسم منهن يقنتن لله ويعملن صالحاً، وقسم آخر ليس كذلك.
وهذه الآية التي فيها هذا التعريض بنساء النبي تذكّر المرء بما جاء في سورة التحريم حيث ذكر الله كلاّ من عائشة وحفصة بغضب وقال حتى وان كانت المرأة زوجة لنبي فان ذلك لا يمنع من دخولها النار فيما لو صدر منها عمل غير صالح، مثلما كان الحال بالنسبة الى امراة نوح وامرأة لوط اللتين لم يغن عنهما ذلك من الله شيئاً وادخلتا النار بسبب ما أتيتا به من منكر. وانتما في قلبيكما انحراف وميل الى محاربة الله ورسوله، ولو تظاهرتما على النبي مرّة اخرى فلن يترك الله نبيّه وذلك أنكما اذعتما اسرار بيت رسول الله الذي امركن بعدم اذاعتها وان لا تتجسسن عليه، فقد خنتما الرسول. اليك في ما يلي نص الآية الشريفة:
﴿وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ * إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ﴾. ﴿عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً… ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ * وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ﴾.
كما نتذكر أيضاً بأن عائشة عصت من بعد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أمر ربّها الذي ورد في مستهل الآية الثالثة والثلاثين من سورة الاحزاب، وقال فيه عزّ من قائل: ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ﴾ وخرجت من بيتها وجيّشت الجيوش من افراد من بني امية وغيرهم وخرجوا على الامام المفترض الطاعة علي بن ابي طالب. وهجموا على أهل البصرة الذين لم تكن لهم يد في مقتل عثمان، وقتلوا عدداً من الناس الابرياء ونهبوا بيت المال وجعلوا من انفسهم مصداقاً صريحاً “للمفسدين في الارض والمحاربين لله”، والفئة الظالمة، مما حدا بعلي بن ابي طالب باعتباره الامام المفترض الطاعة الى محاربتهم وايقافهم عند حدّهم. ولكن عائشة بقيت تبغض علي بن ابي طالب الى آخر عمرها وحتى انها كانت تكره ذكره اسمه( ). ولما سمعت خبر استشهاده فرحت وقرّت عينها( ) ولم يكن هناك من يبغض علياً كبغض عائشة له، رغم ان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: لا يبغضه الا منافق أي ان من يكرهون علياً ليس فيهم مؤمن واحد وكلهم منافقون بغير استثناء.
ومن المحال ان يكذب رسول الله، فقد نصّت سورة النجم علي ما يلي: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ صدق الله وصدق رسوله النبي الكريم. وكان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قد أخبر مسبقاً بخروج عائشة، حينما كان في المسجد فأشار الى دار عائشة وقال:
“هاهنا الفتنة من حيث يطلع قرن الشيطان”( ).
ولكن قد يُتَصَوَّر بأن الخطاب الذي ورد هنا (الآية 33 من سورة الاحزاب) ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾ بصيغة جمع المذكّر قد يكون شاملاً لكل بيوت رسول الله ولا يختص بنسائه فقطوانما يشمله هو ونسائه على حد سواء، وبما انه (صلى الله عليه وسلم) يدخل ضمن هذه المجموعة، فقد ورد الخطاب بصيغة المذكر (مع فائق احترامنا وتبجيلنا لعظمة ومكانة النبي الكريم). الا ان هذا التصوّر مغلوط ولا يتطابق مع الواقع طبعاً، وان جاء الخطاب في آخر الآية الثالثة والثلاثين من سورة الأحزاب بصيغة المذكر، ووقع الرسول ضمن المخاطبين، ولكن عند النظر الى قرينة الحكم والموضوع نلاحظ ان الحكم لا يشمل نساء النبي لأن الله تعالى قد اشار في هذا الخطاب الجديد، الى مخاطبيه الذين خصّهم بالتطهير حصراً، ثم ان ارادة التطهير في هذه الآية ليست ارادة تشريعية، اذ ان الارادة التشريعية لله بالتطهير والخلوص من الاثم لا يختص بأية أسرة بعينها (بل ان الله قصد في ارادته التشريعية وفي اوامره ونواهيه الشرعية ان لا يذنب كل الناس سواء منهم المؤمن او المنافق او الفاسق، وان يجتنبوا المآثم، وان كان قد صدر منهم ذهب في الماضي وكانوا منافقين أو فاسقين فعليهم ان يتداركوا انفسهم بالتوبة ولا يقعوا في المآثم والذنوب مرّة اخرى. وان كانوا لم يقترفوا أي اثم في الماضي فعليهم ان يحاولوا البقاء في الحاضر والمستقبل على ما هم عليه من الطهارة ولا يذنبوا).
وخلاصة القول هي ان الارادة التشريعية لله تعالى لا تختص بفرد معين ولا بأهل بيت بعينه، رغم ان جملة ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ بدأت بكلمة “انّما” التي تفيد الحصر، وهي ان ارادة التطهير من قبل الله خاصة بأهل هذا البيت دون سواهم.
كما تحدثت الآية 41 من سورة المائدة حول المنافقين وبعض الكفار الذين يكفرون بالله عن علم وعمد، وقالت بأن الله لا يريد ان يطهرهم:
﴿أُوْلَئكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الاَْخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾( ).
إذاً فمن غير الممكن ان تكون ارادة الله في هاتين الآيتين إرادة تشريعية؛ بل ان ارادته في هاتين الآيتين ارادة تكوينية قطعاً.
اما بالنسبة الى المخاطبين في آية التطهير (وهم النبي وفاطمة وعلي والحسنين) فبما انهم كانوا يسعون ويحاولون عدم الوقوع في الذنوب والآثام ولا يرتكبون أي ذنب عن علم وعمد، فقد تلطّف بهم الله وصانهم من كل خطأ أو سهو، وذلك بمساعدة ملائكته الذين تكلموا مع مريم العذراء، فهؤلاء الملائكة ينبّهونهم ويحذّرونهم حتى في الحالات الجزئية والطفيفة لكي لا يقعوا في الأثم حتى عن جهل وخطأ، ورغم ان ارتكاب الاثم عن جهل ليس عليه عقوبة اخروية، ولكنه على اية حال نقص للعبد الخالص لله، أراد الله ان يجنّب عباده المخلصين الخاصين الاخصين من الوقوع فيه، مثلما علّم مريم العذراء بعد ولادة عيسى ان تصوم ثلاثة أيام ولا تكلم الناس، حيث انطق الله وليدها وقال اني رسول الله، لكي يدفع عن امه تهمة الفحشاء، ويبيّن للناس ان آدم صفي الله قد خلق من غير أب وأُم، وان الله الذي خلقه، قادر على ان يخلق نبياً من انبيائه من غير أب: “ان مثل عيسى كمثل آدم”.
ورد في اخبار متواترة( ) ان النبي (صلى الله عليه وسلم) أدخل ابنته فاطمة سيدة نساء أهل الجنّة، وعلياً هارون الأُمّة، والحسنين سيدي شباب أهل الجنّة، تحت كساء وقال: “اللهم هؤلاء أهل بيتي وخاصّتي وحماتي… اذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً”.
وعند ذاك نزلت هذه الآية، وكان المخاطبون الخاصّون لضمير جميع المذكّر هم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وفاطمة وعلي والحسنين، وهي لا تشمل نساء النبي. أي وفقاً للحديث للمتواتر لا تدخل نساء النبي في خطاب جمع المذكّر الوارد في آخر الآية الثالثة والثلاثين من سورة الأحزاب.
اضافة الى ذلك فان مثل هذا الخطاب من المستحيل ان يشمل نساء النبي التي وردت الآية السابقة في بعضهن وخاصة عائشة، حيث كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) غاضباً عليهن لمدّة شهر عند نزول هذه الآية لأنهن كنّ يطمعن في الحصول على اكثر مِن حقهنَّ من بيت المال ولهذا السبب كنّ يشمتن برسول الله ويؤذينه( ).
وكان الله قد ذكر في عدّة آيات قبلها انكن ان كنتنّ غير راضيات بهذا المستوى المعاشي والانفاق اليومي يمكنكن ان تطلبن الطلاق وتذهبن لحالكن. وكانت نساء النبي قبل شهر من نزول هذه الآية موضع غضب الله بسبب هذه المطاليب غير المشروعة. اضافة الى ان الله غضب أيضاً على عائشة وحفصة بسبب تجسسهنَّ على النبي واذاعة اسراره خارج داره كما ورد في سورة التحريم. وبيّن الله ان المرأة اذا كانت زوجة نبي فان ذلك لا يمنع من دخولها النار ان كانت تستحق دخول النار( ).
وبالاضافة الى هذه الآيات هناك أيضاً أحاديث متواترة ضد نساء النبي، فقد ورد في حديث ان النبي اشار الى مسكن عائشة وقال: “من هنا يطلع رأس الكفر”( ). وقال أيضاً: “هاهنا الفتنة من حيث يطلع قرن الشيطان”. وقد اظهرت عائشة بسلوكها بعد النبي بأنّها على رأس اعداء علي وتبغضه اشد البغض. وكان رسول الله قد قال بأنه ليس بين من يبغضون علياً مؤمن واحد وكلهم منافقون من غير استثناء. وقد قال الله عز وجل في حال المنافقين:
﴿لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ﴾( ).
وبناء على قول رسول الله بأن علياً لا يبغضه الا منافق، فذلك يعني بأَنَّ عائشة من المنافقين بشهادة رسول الله (صلى الله عليه وسلم). وقد قال الله حول المنافقين بأنَّه “لم يرد الله ان يطهّر قلوبهم”. وبالنتيجة فذلك يعني ان الله جل وعلا لا يريد تطهير قلوب المنافقين ومنهم عائشة. واذا قلنا بأن آية التطهير التي وردت في سورة الاحزاب تشمل عائشة فاننا نكون قد وقعنا حينذاك في تناقض والحال ان كلام الله لا يناقض بعضه بعضاً.
اذاً كما ورد في الحديث المتواتر بأن المخاطبين في المقطع الاخير من الآية الثالثة والثلاثين من سورة الاحزاب، الذي يبدأ بكلمة “انما” هم فقط رسول الله وابنته فاطمة وسبطيه الحسنين وابيهما، علي بن ابي طالب، ولا يشمل نساء النبي، وخاصة عائشة وحفصة اللتان كانتا تبغضان علي بن ابي طالب، ومن المحال ان يشمل التطهير مبغضي ومبغضات علي( )، لأن من يبغض علياً ـ بنص شهادة النبي ـ من المنافقين، والمنافقون ابغض الخلائق الى الله، لأنهم مع تظاهرهم بالاسلام ومعرفتهم بأحقية الاسلام وصحّة اوامر ونواهي الله ورسوله، غير انهم في باطنهم اختاروا الكفر ومخالفة الله ورسوله.
وهؤلاء الاربعة الذين شملتهم آية التطهير الى جانب النبي هم عترة النبي واهل بيته، وهم من سماهم النبي سادة اهل الجنّة، وهم الذين حضر بهم المباهلة، بعدما وعد نصارى نجران بأن يباهلهم بأهل بيته حيث لم يأخذ معه الا فاطمة وعلي والحسنين، ولم يأخذ ولا واحدة من نسائه. وصرّح في حديث الثقلين الذي ادلى به في حجة الوداع وفي مرض وفاته حيث قال: “اني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسكتم بهما فلن تضلّوا ابداً”.
وقد نقل مسلم في كتابه عن الصحابي زيد بن أرقم بأن مصداق العترة وأهل البيت الذي ورد ذكرهم في هذا الحديث، لا يشمل زوجات النبي. فهذا تصريح ادلى به بعض الصحابة وهو ان كلمة العترة وأهل البيت التي وردت في هذا الحديث لا تشمل نساء النبي. بل ومن المحال عقلاً ان تشمل العترة وأهل البيت في هذا الحديث نساء النبي، اذ طبقاً لمفاد المقطع الاول من الآية الثالثة والثلاثين من سورة الاحزاب ﴿وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ﴾، لا يحق لهن الخروج من البيت وقيادة الأُمّة. ومخالفة عائشة لمنطوق هذه الآية عملياً لا يعني الا الضلال، خاصّة وان معركة عائشة مع علي بن ابي طالب الامام المفترض الطاعة وقتل أُناس ابرياء من اهل البصرة ونهب بيت المال هناك، غدا كل ذلك ذريعة بيد معاوية وبني امية ليتمرّدوا ويخرجوا على الامام المفترض الطاعة وهو علي بن ابي طالب ويقسّموا ارض الاسلام التي كانت حتى ذلك اليوم موحّدة وقوية تحت قيادة امام مفترض الطاعة، وكان جزءاً منها بيد معاوية الذي خرج على الامام المفترض الطاعة وأفسد في الارض، حتى صار عمل عائشة وبني امية مثالاً يقتدي به كل المفسدين في الارض ليقسموا ارض الاسلام الكبرى والمقتدرة الى اجزاء ودويلات، وصار المسلمون مجزّءون ومتفرّقون وعلى درجة من الضعف بحيث يستطيع بضعة ملايين من اليهود اضطهادهم وممارسة ابشع انواع الظلم بحقّهم. ونتيجة لهذا التشتت الذي أصاب المسلمين ـ بسبب ما ورثوه عن عائشة وبني اميّة ـ فقد باتوا عاجزين عن لملمة شتاتهم وجمع كلمتهم والدفاع عن حقّهم.
اذاً فالخطاب الالهي الوارد في آخر الآية الثالثة والثلاثين من سورة الاحزاب حول التطهير يشمل اضافة الى النبي، اهل بيته الذين ذكر حديث الثقلين انهم ملازمون للهداية (وهم القادة الوحيدون للامّة من قبل الله ورسوله) ومن المستحيل ان يشمل قادة التفرقة والضلال.
وعلى الرغم ان البخاري كان يخفي بغضه لعلي، الا انه كشف هنا عن بغضه لعلي “في كتاب حديثه المعروف”، من اجل ان يجعل عائشة من المشمولين بالآية المذكورة آنفاً على الرغم من بغضها لعلي، فقال بأن رسول الله كلم عائشة بعد نزول الآية الثالثة والثلاثين من سورة الاحزاب، كلّمها بصيغة جمع المذكر وقال لها: السلام عليكم يا أهل البيت( ). في حين اتضح لنا في ضوء ما مَرَّ من الآيات القرآنية والاحاديث المتواترة بأنه من المحال ان يشمل صيغة جمع المذكّر في هذه الآية (وهي الآية الثالثة والثلاثين من سورة الاحزاب) عائشة، فما بالك بأن يخاطب النبي امرأة واحدة بصيغة جمع المذكر، وهو شيء مغلوط في اللغة العربية. وحتى انه من غير الممكن ان يخاطب النبي جميع نسائه بصيغة جمع المذكّر، فما بالك بأن يخاطب واحدة منهن بصيغة الجمع المذكر. وهذه واحدة اخرى من اكاذيب البخاري وهي تتناقض مع القرآن والسنّة المتواترة وقواعد اللغة العربية.
تفسير آية أولي الأمر، والطاغوت بالاستعانة بسائر الآيات
الآية 59 من سورة النساء:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾.
في الآية المذكورة آنفاً أُمِرَ المسلمون الى يوم القيامة بطاعة ثلاث، وطاعة هؤلاء الثلاثة هي الواجبة فقط، وهم الله، والرسول، وأولي الأمر. ومن الطبيعي ان الناس يعرفون الله، ويعرفون الرسول. ولكن كلمة اولي الامر تحتاج الى تفسير، والذي يفسّرها هو رسول الله (صلى الله عليه وسلم). مثلما أمر الله تعالى في كتابه الكريم بالصلاة، والصيام، والحج، والزكاة، وفروع الدين، بشكل اجمالي وترك للنبي مهمة تفسيرها وبيان تفصيلها وشروطها وكيفيّاتها. وكذلك خاطب الله تعالى في سورة النحل رسوله بالقول:
﴿وَ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾.
﴿وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾.
ولهذا فبعدما أمر الله بطاعته وطاعة الرسول واولي الامر، قال بعد ذلك مباشرة:
﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾.
ولم يقل “وان تنازعتم في شيء فردّوه الى الله والرسول واولي الأمر”.
لأنه من الممكن ان يقع النزاع في تشخيص اولي الامر، خاصة وان منزلة اولي الأمر ـ حسبما تفيد به الآية المذكورة آنفاً ـ منزلة رفيعة جدّاً وتأتي من بعد الله والرسول، وهو الوحيد الذي يبقى أمره واجباً على الامّة الاسلامية مطلقاً الى يوم القيامة. واذا لم يشخص بدقّة من هم هؤلاء أولي الأمر، فقد يطمع من لديهم حب الرئاسة في الاستيلاء على هذا المنصب بعد رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ويدّعون ولاية الامر على الناس رغم انهم غير صالحين لهذا المنصب ولا مؤهلين له، وذلك لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: “انا لا نولّي هذا الأمر من سأله ولا من حرص عليه”( ).
وبالنتيجة فان الله العالم بجميع الامور قد بيّن في هذه الآية الشريفة بأنكم إن اختلفتم في شيء فعليكم بالرجوع الى الله والى الرسول. وبعبارة اخرى ان تشخيص وتعيين اولي الأمر ـ وهو أمر قد يقع فيه نزاع واختلاف ـ ينبغي الرجوع فيه الى الله والرسول. أي ان الله والرسول هما المرجع وينبغي الرجوع اليهما في حل أي اختلاف أو نزاع، وحتى انهما المرجع لحل الاختلاف حول تشخيص وتعيين من هم اولي الأمر. وبما ان عبارة “وان تنازعتم في شيء” وردت مطلقة، وقد تشمل حتى معرفة اولي الامر، لذلك لم يقل “إن تنازعتم في شيء فردّوه الى الله والرسول واولي الامر”؛ وذلك لأن اولي الأمر ان لم يكونوا قد عُرِّفوا وعيّنوا من قبل الله والرسول، ولم يكن هناك ثمّة اختلاف ونزاع بشأنهم، فقد يكون الموضوع المتنازع فيه مرجعاً لرفع الاختلاف بحد ذاته. ويمكن القول بعبارة اخرى يصبح الشيء الذي هو بحد ذاته موضع نزاع واختلاف، يصبح مرجعاً لحل الاختلاف. ولهذا السبب بيّن العزيز الحكيم في الجملة التالية لهذه الآية بأنه اذا وقع بينكم نزاع او اختلاف في شيء فالمرجع الوحيد الذي ينبغي الرجوع إليه لحلّه هو الله والرسول حتى وان كان موضوع التنازع والاختلاف هو مصداق اولي الامر. أي لو وقع بينكم نزاع واختلفتم في تعيين من هم اولي الأمر، لا ينبغي لكم اتخاذ القرار من تلقاء أنفسكم، بل لابد لكم من الرجوع الى الله والى الرسول من اجل التوصّل الى المعرفة الصحيحة لأولي الأمر. ومن المحال ان يعيّن الله مرجعاً لحل الاختلاف من غير ان تكون لدى ذلك المرجع القدرة على حلّه.
إذاً يتضح بأن الصحابة لو كانوا قد رجعوا الى الله ورسوله لمعرفة اولي الأمر، لما وقع بينهم أي نزاع، وحتى لو كان قد وقع شيء من ذلك، لتيسّر لهم حلّه بمجرد الرجوع الى الله والرسول.
كما ويتبيّن أيضاً من الآية الشريفة المذكورة آنفاً بأن رسول الله كان يفسّر سائر الآيات التي تستلزم التفسير، فكان يشرح معناها ويعيّن مصداقها. كما انه بيّن بشكل دقيق المصداق الصحيح لأولي الامر باعتباره الموضوع الاكثر أهمية من بعد معرفة الله ورسوله، ولم يترك أي مجال او ذريعة للاختلاف والفرقة والشطط عن الوحدة التي أُمرت الامة بالمحافظة عليها الى يوم القيامة. ولكن قبل الدخول في بحث السنّة النبوية المتواترة في تعيين اولي الأمر، لابد ان نشير الى ان الآية الشريفة الآنف ذكرها قد كشفت بأن اولي الأمر يجب ان يعيّنوا ويُشخَّصوا من قبل الله ورسوله. وقد عَرض الله تعالى بين ايدينا مزيداً من التوضيحات الكفيلة بمعرفة اولي الأمر في الآية الثالثة والثمانين من السورة نفسها، وذلك في قوله تعالى:
﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلاً﴾( ).
فقد بيّن الله عز وجل في هذه الآية بأنَّ الصحابة متى ما تناهى الى اسماعهم شيئاً يستشعرون منه الخوف أو ينطوي على مخاطر، يسارعون الى اشاعته وبثّه بين الآخرين، ولو انهم ـ بدل ان يشيعوا ذلك الخبر ويبثّوه بين الناس ـ يسارعون الى ردّه الى النبي أو الى اولي الأمر فقط، فهؤلاء يعرفون الطريق الصحيح للاستنباط من القرآن والسُنّة. أي ان الرسول واولي الأمر هم فقط الذين يعرفون القضايا الأمنية والمخاطر ـ وهي امور تتعلق بالسياسة والحكومة ـ عن طريق القرآن والسنّة. كما ان اولي الامر من بعد الرسول هم وحدهم (من بين الصحابة والتابعين) الذين يستطيعون استنباط اسس التعامل الصحيح من القرآن والسنّة لحلّ كل قضية سياسية وامنية. أيان اولي الامر من بعد رسول الله، هم العالمون الكاملون بالقرآن والسنّة، وهم وحدهم القادرون على التعاطي مع القضايا السياسية والأمنية عن طريق القرآن والسنّة. وعموم الصحابة والتابعين ليست لديهم مثل هذه القدرة الاستنباطية. أي ان اولي الأمر ـ كالرسول ـ افراد افذاذ لا نظير لهم في القدرة على معرفة مصاديق امر الله والرسول.
وعندما نضع هذه الآية الى جانب الآية السابعة من سورة الرعد، حيث يقول: ﴿إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرٌ وَ لِكُلِّ قَوْم هَاد﴾، او الى جانب السنّة النبوية المتواترة حيث يخاطب النبي (صلى الله عليه وسلم) الامة بالقول: “اني تارك فيكم الثقلين، كتاب الله وعترتي، ما ان تمسكتم بهما لن تضلّوا ابداً” أي ان العترة من بعدي، هم فقط العالمون الكاملون بكل القرآن والسنّة. ويمكنهم استنباط الحكم الصحيح لكل واقعة وقضية امنية وسياسية، من الكتاب والسنّة.
وكذا ما ورد في حديث الثقلين الذي يقول فيه صلوات الله عليه بأن التمسّك بالقرآن والسنّة، ينجيكم من الوقوع في الضلال الى يوم القيامة. “ويفهم من كل ذلك بأن الله قد جعل بين الامّة اماماً من العترة الى يوم القيامة لتتمسّك به وتتبعه لكي لا تقع في الضلال”. وهذا ما يقوله القرآن أيضاً في الآية الشريفة: ﴿لِكُلِّ قَوْم هَاد﴾ وهو ان الله لا يترك أي قوم من غير هاد الى يوم القيامة، بل لابد ان يكون هناك بين الأُمّة هاد بحق وهو ـ بناءً على ما تفيد به السنّة النبوية ـ امام من العترة.
ويمكن ايجاز الكلام بالقول بأنه في ضوء ما تفيد به الآية: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾ التاسعة والخمسين من سورة النساء فان المرجع الذي يُصار إليه في رفع كل نزاع ومن جملة ذلك نزاع معرفة اولي الأمر، هو الله والرسول. وكذلك استناداً الى ما ذهبت إليه الآية الثالثة والثمانون من سورة النساء: ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ )وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ …﴾ بأن اولي الأمر هم وحدهم القادرون ـ بعد رسول الله ـ على الاستنباط الصحيح من القرآن والسنّة. وهكذا أيضاً بالنسبة الى الآية ﴿لِكُلِّ قَوْم هَاد﴾، وكذلك ما ورد في حديث الثقلين حيث قال النبي بأنه من بعد القرآن، يبقى الأئمة من العترة النبوية هم وحدهم وسيلة الهداية وهم الهداة الذين رتّبهم الله لهذه المناصب بحق.
﴿أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى﴾( ).
هاتان الآيتان اعتبرتا الامام بحق واجب الاتّباع فحسب، وهم الانبياء والأئمة المعينون من الله وهم معصومون وعالمون كاملون. ويتضح من ذلك بأن اولي الأمر، المنصوبين لهذا المنصب من الله ورسوله، وهم وحدهم الهداة بحق، وهم فقط القادرون في جميع الحالات على الحكم استناداً الى القرآن والسنّة، هم اولئك الهداة بحق الذين قال عنهم الله في كتابه الكريم: ﴿وَ لِكُلِّ قَوْم هَاد﴾. كما ان الرسول قال أيضاً بأن الائمة من العترة هم الهداة بحق الى يوم القيامة. وبالنتيجة من المحال ان يكون الهداة بحق غير اولي الأمر، وذلك لأن الجائز والواجب هو اتباع الهادي بحق فحسب. وبما انه بعد طاعة الله والرسول تكون طاعة اولي الامر واجبة فقط، فمن غير الممكن ان يكون ولاة الأمر غير الهداة بحق من العترة، وهم الذين عيّنهم الرسول بأمر الله ليكونوا قادة للامة من بعده، وهم معصومون طبعاً.
ونخلص من كل ذلك الى ان اتباع “غير الأئمة من العترة”، حرام، والأئمة من غير العترة كلهم ائمة ضلال بلا استثناء، ومن المحال ان يكونوا هم اولو الأمر.
أما على الصعيد التاريخي فقد ذكرنا من قبل بأنَّ خلافة ابي بكر وعمر قد انتهت الى خلافة بني امية الذين هدموا الدين ومنعوا كتابة الحديث. ولولا شهادة الامام الحسين بن علي سبط رسول الله (وأحد سيدي شباب اهل الجنّة والمشمول بآية التطهير وآية وجوب مودّة ذي القربى)، وهي الشهادة التي أدّت في ما بعد الى اندلاع تلك الثورة الشعبية التي انهت حكم بني اميّة، لاستمرت حكومة بني أمية التي ينكر بعض رموزها ـ كما كان الحال بالنسبة الى يزيد ـ رسالة النبي، ولاستمر منع كتابة الحديث النبوي، وهو ما كان يعني بطبيعة الحال ان الاسلام كان سيطمَس بعد عدة قرون ولما كان له أي اثر.
وقد حرّم الله في كتابه الكريم طاعة الطاغوت:
﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً﴾( ).
﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا﴾( ).
﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا﴾( ).
كان هناك بعض اصحاب الرسول الذين يعتبرون انفسهم مؤمنين بالله وبالكتب السماوية، كان عندما يحصل بينهم وبين بعض اليهود نزاع حول اموال أو اشياء دنيوية اخرى، كان عليهم الرجوع الى قاض او الى حكم ليحكم بينهم. ورغم ان اليهودي كان على استعداد لقبول التحاكم الى النبي، غير ان الصحابي الذي تشير إليه الآية طلب من اليهودي التحاكم الى قاض يهودي (على خلاف الرجل اليهودي الذي كان يريد الاحتكام الى النبي) لأن الحق كان للرجل اليهودي، والصحابي يعلم بأنهما لو تحاكما الى النبي فسيحكم عليه النبي باعادة الحق الى صاحبه، ولكن لو تحاكما الى قاض يهودي فهو يستطيع دفع القاضي اليهودي الى اصدار حكم لصالحه سواء بالرشوة او بما له من علاقة شخصية معه.
وقد ذم الله تعالى في الآية الستين من سورة النساء ذلك الصحابي مبيّناً بأنَّ ذلك الصحابي كان يعتبر نفسه مؤمناً بالله ورسوله والقرآن والكتب السماوية، فكيف يريد التحاكم الى الطاغوت، وهو الحاكم بغير ما انزل الله ليحكم له بغير الحق؟ في حين انه أُمر ان يكفر بالطاغوت.
ويفهم من خلال دراسة الآية الستين بأنها نزلت من غير شك في صحابي من صحابة رسول الله احتكم الى قاض يهودي. ومصداق الطاغوت في هذا المجال هو هذا القاضي اليهودي. ولكن ليس هناك ثمة شك أيضاً بأن المصداق الخاص لا يخصص الحكم بذلك الفرد في مجال الاحكام العامّة، وانّما يبقى الحكم عاماً، وخاصّة في الآية 256 من سورة البقرة التي اعتبرت الكفر بالطاغوت بشكل عام ومطلق سبباً للنجاة:
﴿فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى﴾( ).
وكذلك ما ورد في الآية الستين من سورة النساء:
﴿يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ﴾.
وهذا طبعاً حكم عام ولا يختص بهذا القاضي اليهودي بعينه، وانما يحرم التحاكم الى أي قاض يهودي آخر، بل الى أي شخص آخر يحكم بغير ما انزل الله، سواء كان يهودياً او غير يهودي، يعني كل حاكم لم ينصب من قبل الله. والكفر بمثل هذا الشخص واجب.
والقضية التي تثير التساؤل هنا هي ما معنى الطاغوت؟ وهل هذه الكلمة صفة مشبّهة أم صيغة مبالغة. والظاهر انها صيغة مبالغة مشتقّة من المصدر طغى، الذي يعني العصيان والتمرّد والخروج عن حد التعادل والاتزان، كما هو الحال بالنسبة الى النهر الذي يكثر ماؤه الى درجة انه يفيض على الدور والاراضي والمزارع المجاورة له
ويدمّرها، وفي مثل هذه الحالة يقولون طغى النهر. أو كما وصف الله فرعون الذي ادّعى الربوبية وطغى وتمرّد على الله:
﴿اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى﴾( ).
أي ان فرعون قد طغى، فهو طاغ، بل انه “طاغوت” أي في أعلى درجات الطغيان، لأنه ادّعى لنفسه اعظم مخالفة لله وهي ادعاء الربوبية.
ولاحظنا بأن وصف الطاغوت لا يختص بالقاضي اليهودي، بل ولا يختص بأي قاض لا يحكم بالحق، وانّما يشمل كل قاض لا يحكم بالحق وكل من لا يحكم بما انزل الله، سواء كان فرعون او غير فرعون، بل ويشمل حتى المسلم الذي يحكم بغير ما انزل الله كيزيد بن معاوية والحجاج بن يوسف الثقفي، لأن القرآن وصف كل من يحكم بغير ما انزل الله بأنه ظالم وفاسق وكافر، على النحو التالي:
﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾( ).
﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾( ).
﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾( ).
ولأن الله تعالى قسم في الآية السادسة والسبعين من سورة النساء، المقاتلين الى مجموعتين:
1ـ المؤمنون حقاً الذين يقاتلون في سبيل الله.
2ـ الكفار الذين يقاتلون في سبيل الطاغوت.
أي ان كل من قاتلوا ضد رسول الله كانوا اتباع الطاغوت سواءً كانوا يهوداً أو مسيحيين روم او مشركي قريش، أي ان ابا سفيان عندما حارب رسول الله كان طاغوتاً. وعندما تحالف اليهود مع ابي سفيان ـ رغم انهم (يعني اليهود) كانوا يعارضون عبادة الاصنام ولم يكن أي منهم يعبد الأصنام ـ كانوا يرون ان ابا سفيان الذي يعبد الأصنام خير لهم من محمد والمسلمين. وقد ردّ عليهم الله هذا الرأي المغلوط بقوله:
﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْت ِوَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاَءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَءَامَنُواْ سَبِيلاً﴾( ).
وكذلك قسّم الله المقاتلين ـ حسبما تفيد الآية السادسة والسبعين من سورة النساء ـ الى:
1ـ مقاتلين في سبيل الله.
2ـ مقاتلين في سبيل الطاغوت.
وفي الآية 257 من سورة البقرة قسم الله الناس الى مجموعتين:
المجموعة الاولى: المؤمنون الحقيقيون، وهؤلاء وليّهم الله، لأن رسول الله لا ينطق بشيء من تلقاء نفسه ﴿وَ مَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُو َإِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى﴾، و﴿ مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾ وانّما يبيّن احكام الله، والأئمة المنصوبون من قبل الله يبيّنون الاحكام الالهية فقط ويهدون بالحق وليس في حكمهم جهل ولا خطأ ﴿يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا﴾. اذاً أتْباع الأنبياء والائمة الالهيين يأتمرون بأمر الله فقط ويخضعون لولايته.
المجموعة الثانية: تقع في مقابل المؤمنين بالله (الذين وليهم الله) وهم الكفّار وغير المؤمنين الحقيقيين، وهؤلاء وليّهم الطاغوت وهم يأتمرون بأمره. فقد ورد في سورة البقرة ما يلي:
﴿اللَّهُ وَلِىُّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾( ).
والآن بعد ان اتّضح لنا بأن كل حاكم لم يكن من قبل الله طاغوت، وان الحكومة الالهية هي فقط حكومة النبي والامام المنصوب من الله، وهو من نصبه الله ورسوله يحكم على أساس القرآن والسنّة الواقعية فقط، يتبيّن لنا عند ذاك بأن الله قد بعث الانبياء ليخرجوا الناس من طاعة غير الله الى طاعة الله ولكي يأتمروا بأمر الله وحده، وهذا هو معنى قوله تعالى:
﴿وَ لَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّة رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَ اجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ﴾( ).
وخلاصة القول هي ان كل حاكم غير منصوب من قِبل الله ورسوله، طاغوت يجب الكفر به كائناً من كان( ).
ولدينا شهادة من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) تفيد بأن الحاكم اذا كان من العترة الهادية، أي اذا كان منصوباً من قبل الله تعالى فهو لا يخطىء في قيادة الأُمّة وهو امام حق. وهذا يعني بالنتيجة بأن كل إمام من غير العترة، طاغوت، (يخرجون الناس من النور الى الظلمات عمداً لمنافعهم او خطاءٍ لجهلهم) فما بالك إن كان يحكم بغير ما انزل الله، ويفرض عزلة على عليّ بن ابي طالب الذي من العترة، ويأتي ببني اميّة الى سدّة الحكم، من بعدما( ) تبيّن من قبل انهم ظلمة ومنافقون استناداً الى شهادة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الذي قال: من يبغض علياً منافق.
ويمكن القول بايجاز:
1ـ حديث الثقلين حول العترة الهادية التي جعلها النبي من بعده بمثابة منار يُهتدى به ومَعْلَماً للتمييز بين فريق الحق وفريق الباطل. وهذا الحديث مروي بالتواتر وليس فيه من تناقض.
2ـ من غير الممكن ان يكون “اتباع السلطان الذي قد يكون جائراً وحاكماً بغير ما انزل الله وطاغوتاً”، “أو اتباع الجماعة (التي تخلّت عن النبي في ساحة المعركة وتركته وحده)”، دليلاً على الاحقية والنجاة من الضلال على الدوام.
ومن غير الممكن أيضاً ان يكون أبا بكر وعمر (اللَذين لم يكونا من العترة) إمامي هدىً وحبلاً يعصم الامّة من الضلال بعدما تخلّيا عن النبي حينما حوصر في شعب أبي طالب وفي ساحة المعركة عندما شعرا بالهزيمة، وخالفا النبي في غزوة بدر وفي صلح الحديبية وعندما اراد ان يكتب وصيّته، وبعد النبي ازاحا عترته عن الساحة، واستعملوا بني امية امثال معاوية وعثمان، مما أدى ذلك بالنتيجة الى تمهيد الظروف الكفيلة بتسلّط بني امية على رقاب المسلمين، فمحقوا دين الامّة ودنياها وفرّقوا شملها، ثم ان الفضائل التي نسبها اليهما مبغضو علي، أي المنافقون تتناقض تماماً مع ماضيهم وتاريخهم وحتى مع بعض اقوالهم، ومن المحال ان تكون صحيحة( )، كما مر من قبل.
وليس ثمة شك في ان معاوية بن ابي سفيان، هو قاتل عمار بن ياسر الذي شهد له رسول الله بأنه تقتله الفئة الباغية، فقد قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): يا عمار تقتلك الفئة الباغية. لقد تسلط معاوية لا بأمر من الله ورسوله وانّما بمعصية الله الذي أمر ﴿أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الاَْمْرِمِنكُمْ﴾ بل بمخالفته للامام المفترض الطاعة وهو علي بن ابي طالب، والهجوم على نفوس واموال واعراض المسلمين، واراقة دماء الابرياء ومنهم عمار بن ياسر. فصار معاوية بذلك حاكماً بغير ما انزل الله، وحتى انّه حسبما نقل “مسلم”، كان يأمر بأكل المال الحرام واراقة الدم الحرام”، وحتى انه دسَّ السم الى الحسن بن علي وهو من ائمة عترة رسول الله الواجبة الاتباع ومن ذوي القربى الذين أوجب الله مودّتهم في كتابه وأحد سيدي شباب أهل الجنّة، وقتله، وأوصى بالخلافة من بعده لابنه الفاسق( ) يزيد الذي قتل الحسين بن علي، (وهو من عترة النبي الواجبة الاتباع وسبط النبي، والسيد الآخر لشباب أهل الجنّة ومن ذوي القربى الذين أوجب الله طاعتهم)، ومن بعد قتل الحسين أمر يزيد بن معاوية جيشه بالهجوم على مدينة النبي واستباحها ثلاثة أيام لجيشه ليفعل ما يشاء بأعراض المسلمين واموالهم وارواحهم، بحيث انه بعد تسعة أشهر من ذلك التاريخ انجبت نساء المدينة ألف ولد زنا. ومن المثير للاشمئزاز ان جيشه قتل هناك حتى الاطفال الرضّع وزنا بنساء الصحابة. وبعدما خرج ذلك الجيش من المدينة سار نحو مكّة فاحرق أستار الكعبة وهدمها. وكان يزيد يقول بكل صلافة بأنَّ محمداً لم يكن رسولاً وانما ادعى الرسالة ليصل الى الرئاسة، وقال أيضاً لعب بنو هاشم بالسلطة والملك:
لعبت هاشم بالملك فلا
خبر جاء ولا وحي نزل
وفي ضوء كل ذلك ألا يمكن القول بأنَّ يزيد بن معاوية، وأباه معاوية بن ابي سفيان، مخالفان لله ورسوله ومفسدان في الارض وطغيا على الله ورسوله بما ارتكباه من أعمال.
كما ان عثمان بن عفّان الاموي الذي جاء الى الخلافة بوصيّة من عمر وليس بأمر الله ورسوله وبعد موافقته على الشرط الذي عُرض عليه وهو ان يسير بسيرة ابي بكر وعمر، وان يطبّقها بحذافيرها بما يعنيه ذلك من عدم العمل بسنّة النبي التي كان تقوم على مبدأ تقسيم بيت المال بالسويّة، وانّما العمل بسيرة عمر الذي وضع فروقات في العطاء وميّز بينهم في تقسيم بيت المال، ولم يقسمه بين المسلمين بالتساوي( )، او كما فعل ابو بكر الذي منع عن اولاد فاطمة الخمس وسهم ذي القربى، ولم يتمسك بالعترة التي أوصى الرسولُ بالتمسّك بها، وهو علي بن ابي طالب، واستمرّ في منع كتابة الحديث. (ولو اردنا سرد الحالات التي خالف فيها ابو بكر وعمر القرآن والسنّة للزم تدوين كتاب مستقل لهذا الغرض).
وعلى اية حال فانَّ عثمان الاموي لم يصل الى السلطة بوصية من النبي، بل بالعكس فان النبي قد أمر بالتمسّك بالعترة الهادية واتباعهم وعدم اتّباع غيرهم، وخالف وصية النبي الذي امر باتباع العترة الهادية أي علي بن ابي طالب، ووصل الى السلطة بطاعته لابي بكر وعمر وهما من غير عترة النبي.
وعمل عثمان على استعمال اقاربه الفسقة والظلمة مثل الوليد بن عقبة الصحابي الشارب للخمر، وعبد الله بن ابي سرح الجائر الذي حكم مصر بالقسوة والاستبداد، اضافة الى ما قام به من تقسيم بيت المال بين بني امية من امثال مروان بن الحكم، وغير ذلك من الأعمال التي أثارت سخط الصحابة عليه من المهاجرين والانصار، وقد أمرت عائشة بقتل عثمان الاموي ووصفته بأنه طاغوت. ثم ان أهالي مصر الذين خرجوا على عثمان بسبب دعمه لأخيه الجائر عبد الله بن ابي سرح، قتلوه وانصرفوا، وقد منع أصحاب النبي دفن جنازة عثمان في قبور المسلمين، لا لأنهم كانوا يعتبروه منافقاً بل انهم كانوا يعتبرونه كافراً. وحتى علي بن ابي طالب (هارون الامة وعترة النبي والمشمول بآية التطهير) لم يقدم على تكفين ودفن عثمان باعتباره مسلماً (لانه لم يكن يعتبره مسلماً والا فانَّ علياً وهو عترة النبي (صلى الله عليه وسلم) واعظم من دافع عنه وضحّى لأجله من غير الممكن ان يتنصّل ولم يتنصّل قط عن واجب شرعي وهو تكفين الميت المسلم).
لقد كان ابو بكر وعمر، وفقاً للتاريخ المتواتر الذي مرَّ ذكره، أول من خالف النبي في بدر، وفرّا في أُحد، واول من خالف صلح النبي في الحديبية، وفرّا في حنين وخيبر، واول من خالف كتابة وصية النبي عند طلب النبي الدواة للوصية( ) وأول من خالف العترة الهادية الواجبة الاتّباع بعد النبي، وأول( ) من عمل على استبعاد وتهميش العترة الهادية، والتمهيد لمجيء الحكم الاموي (عثمان) الذي أساء الى دنيا المسلمين ودينهم. فقد قال النبي (صلى الله عليه وسلم): يُهلك امتي هذا الحي من قريش.
(هذا ما نقله البخاري في كتابه، في ابواب المناقب، ونقل مسلم في كتاب الفتن، وغيرهما متواتراً) رغم ان ابا بكر قال بعد رسول الله في السقيفة “ان السلطة تكون لهذا الحي من قريش” يريد نفسه وابا عبيدة وعمر من غير بني هاشم.
ونظراً الى وجوب اتباع العترة الهادية امتثالاً لما أمر به النبي في حديث الثقلين المتواتر الصحيح، فالنتيجة التي نصل اليها من خلال ذلك هي ان القريشيين من غير عترة النبي تسبّبوا في ضلال وفرقة الامّة وهلاك الناس، إستناداً الى ما أخبر به رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وشهد به التاريخ.
ما لا يمكن تجاوزه:
لا يمكن ان يكتب المرء كتاباً حول الصحابة من غير ان يعرّج على ذكر فاطمة الزهراء سيّدة نساء اهل الجنّة، لأنه على الاقل ان فاطمة كان لها في زمن أبيها (رسول الله) عدّة أولاد، ثم انها لم تكن صبيّة غير بالغة، ومن يكون هذا حاله ينبغي ان يعد في عداد الصحابة من غير ترديد. أي ان السيدة فاطمة من الصحابة لاسيما وانها هي وزوجها علي لم تكن لهما سابقة شرك ولا عبدا صنماً، أضف الى انها من اهل بيت النبي ومن ذوي القربى الذين اوجب الله مودّتهم.
الا ان الشيء الذي كان يميّز فاطمة عن بقية الصحابة هو ليس الصحبة، اذ كل المسلمين من النساء والرجال الذين كانوا حول النبي، يدخلون في عداد الصحابة. كما ان كونها بنت الرسول لا يُعد امتيازاً خاصاً لفاطمة، اذ ان زينب وام كلثوم كما ينقل البعض هما أيضاً من بنات الرسول. (وان كان بعض المحققين يرى بانَّ زينب وام كلثوم، ابنتا اخت خديجة، أي ابنتا هالة). وعلى فرض ان زينب وام كلثوم كانتا ربيبتي النبي، الا انهما لا تصلان الى منزلة وأهمية فاطمة سيّدة نساء أهل الجنّة، ولم تكن لهما مثل هذه الأهمية قط، بحيث يصطحبهما النبي الى المباهلة، عندما وعد نصارى نجران أن يباهلهم بأهل بيته. وانما اصطحب فاطمة سيدة نساء اهل الجنّة، والحسنين سيدي شباب أهل الجنّة، وعلي بن ابي طالب (هارون الأمّة)، ولم يأخذ معه زينب او ام كلثوم، وكذا لم يأخذ معه أياً من نسائه.
وفي قصّة نزول آية التطهير أيضاً، ضم النبي إليه تحت كسائه فاطمة سيدة نساء أهل الجنّة، والحسن والحسين سيدي شباب اهل الجنة، وعلياً هارون الأمّة، ونزلت عند ذاك آية التطهير فيهم وحدهم وليس في زينب وام كلثوم ولا في نساء النبي (اللاتي نزلت آيات من سورة الاحزاب في ذم بعضهم، وكان بعضهن موضع غضبه كما ورد في اول سورة التحريم وضرب مثلاً لهن بامرأة لوط وامرأة نوح اللتين لم يغن عنهما كونهما زوجتي نبيّين شيئاً، ولم يمنع من دخولهما النار، وقد شهد القرآن بانحراف قلبيهما: ﴿فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا﴾).
إذاً فالسيدة فاطمة سيّدة نساء اهل الجنّة متميّزة على جميع بنات النبي وأفضل منهن، وأفضل من ازواجه، بل أفضل من جميع نساء العالمين وأهل الجنّة.
بيد ان الشيء الذي جعلها تفضل جميع نساء العالم من الأولين والآخرين، ويجعلها افضل حتى من مريم العذراء هو ما شهد به لها النبي الذي لا ينطق عن الهوى، بأنها “سيّدة نساء أهل الجنّة”. ومن المؤكد ان مريم العذراء في الجنّة، ولكن فاطمة تكون هناك سيّدة عليها، لأن فاطمة سيّدة كل نساء الجنّة بشهادة النبي الذي ﴿وَ مَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى﴾ وهي لم تنل هذه المرتبة الا لعلو ايمانها وطاعتها لربّها، فجعلها ربّها أفضل من سائر النساء وحتى افضل من مريم العذراء (مريم التي كانت تكلم الملائكة ونزلت عليها مائدة من السماء) وهذا (يعني وجود فاطمة بما انها سيدة نساء أهل الجنّة) واحد من عوامل افضلية الاسلام على المسيحية، اذ ان افضل امرأة في الاسلام تتفوق في الأفضلية على افضل امرأة عند المسيحية وعند سائر اهل الكتاب.
وقد نقل عن طريق أهل البيت وآل محمد حول السيّدة فاطمة انها كانت تكلم الملائكة وتكلم حتّى جبرائيل ـ كما كان الحال بالنسبة الى مريم ـ ومن ألقاب السيّدة فاطمة “المحدّثة” أي انها تتحدث مع الملائكة. وكذلك ورد في أحاديث أهل البيت وفي أحاديث الأئمة من عترة النبي، ان علي بن ابي طالب هارون الامّة، وامام العترة الهادية (الذي هو اول القوم اسلاماً واكثر الصحابة تضحية وفداءً للنبي)، كان مثل مريم يحدّث الملائكة أيضاً. وعندما تكون السيّدة فاطمة محدّثة للملائكة، لا يُستبعد أبداً ان يكون علي ابن ابي طالب (الذي تعتبره فاطمة امامها وافضل منها وهارون الأمّة واكثر الصحابة فداءً وتضحية للنبي) بطريق أولى محدّثاً للملائكة أيضاً.
وعلى أية حال فان فاطمة سيّدة نساء اهل الجنّة كانت مفخرة الاسلام، وجميع الصحابة، وكان لها مكانة متميّزة بين الصحابة مثلما لمريم مكانة خاصة في المسيحية، ومثلما لها من احترام واهتمام عند اتباع المسيحية.
ولكن يبقى هناك ثمة تساؤل يسترعي اهتمام المسلمين وغير المسلمين، وهو لماذا نُسيت هذه المرأة التي تعدّ اعظم مفخرة للمسلمين، بعد وفاة ابيها مباشرة، وأدرج ذكرها طي النسيان؟
1ـ رغم انها كانت شابّة، توفّيت مبكراً؟
2ـ لماذا لم يذكر سبب وفاتها في صفحات التاريخ؟ في حين ان أسباب الوفاة تُذكر عادة.
ويقتصر البعض على ذكر هجوم الجماعة العمرية بأمر أبي بكر على دار فاطمة وأمر ابي بكر باقتياد علي راغماً ومنهم البلاذري، والأمر باحراق دار فاطمة حتى وان كانت هي فيها (وحتّى وان كان فيها الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنّة وعلي هارون الامّة، وهو الذي قال له رسول الله (صلى الله عليه وسلم): انت منّي وانا منك. وقد ورد هذا في تاريخ الطبري، وتاريخ أبي الفداء، والعقد الفريد، وابن عبد ربّه وغيرهم).
ويعتبر الشيعة فاطمة شهيدة. وقد ورد في “تهذيب الشيخ”، في زيارتها، ما يلي: “ايتها الصدّيقة الشهيدة”.
وذكر الصدوق في كتاب “من لا يحضره الفقيه”، وفي عبارة حديث “الكافي” في خطاب علي بن ابي طالب لقبر رسول الله (صلى الله عليه وسلم): “وستُنبؤك ابنتك بتظافر امّتك على هضمها، فاحفها السؤال واستخبرها الحال ويحكم الله وهو خير الحاكمين”.
وعن “كتاب سليم بن قيس” الذي كان حاضراً في واقعة حرق الدار، ان المغيرة ضرب فاطمة بالسوط.
وجاء في “كتاب الملل والنحل للشهرستاني” عن النظام ان عمر ضرب بطن فاطمة حتى القت المحسن من بطنها. ثم ان تاريخ ويوم وفاتها مجهول، وفيه اختلاف بين المسلمين، فلماذا كل ذلك؟
3ـ كما ان موضع قبرها مجهول أيضاً، رغم ان قبور سائر اولاد النبي معلومة.
4ـ نقل كتاب تاريخ المدينة المنوّرة لابن شبّة، عن محمد بن علي بن عمر انه كان يقول: قبر فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في البقيع، وكذلك روى عن غير واحد كما انه روى ابن شبّة عن جعفر بن محمد عن ابيه قال دَفَنَ عليٌ فاطمة ليلاً في منزلها الذي دخل في المسجد. فقبرها عند باب المسجد. وعن عبد العزيز بن عمران انها دفنت ليلاً ولا يعلم بها كثير من الناس. وحتى ان ابا بكر وعمر لم يحضرا تشييع جنازتها والصلاة عليها، ولا يعلمان حتى موضع قبرها. وكانت فاطمة سيدة نساء اهل الجنّة غاضبة عليهما. وصادر ابو بكر كل اموالها. وحرمها من ميراث أبيها، وأخذ منها فدك التي كان ابوها قد نحلها اياها، وقطع عنها حتى سهم ذوي القربى الذي جعله الله لها في القرآن من الخمس واحرقوا دارها.في حين لم يكن هناك في عهد رسول الله أي تنافر بين فاطمة وابي بكر سوى في السنة الاخيرة التي أوصى فيها رسول الله الامة في موسم الحج وفي غدير خم بالعترة وذوي القربى، وأوجب التمسّك بالقرآن وبالعترة الهادية من بعده، واعتبر التمسّك بهما سبيلاً لصيانة الامة من الضلال، وعندما شارف على الرحيل اراد ان يدوّن لهم تلك الوسيلة التي تعصمهم اذا تمسكوا بها من الضلال، وهي تعني طبعاً زعامة العترة. وكان من الطبيعي ان يقف ابو بكر وعائشة في هذا النزاع الذي احتدم بين الجماعة العمرية وبعض اهل بيت رسول الله، الى جانب عمر، في حين وقفت “فاطمة سيدة نساء اهل الجنة الى جانب هارون الامة” في تأييد تدوين وصية رسول الله التي يُعيّن فيها الوسيلة الكفيلة بصيانة الامة من الضلال من بعده. فكان هذا اول تنافر بين النبي وفاطمة وعلي وجماعة آخرين من أهل بيت النبي من جهة، وبين ابي بكر وعمر من الجماعة العمرية من جهة اخرى، حيث كان النبي في استياء شديد من الجماع العمرية، وقد عبّر عن هذا الاستياء بقوله لهم: “قوموا عني” (أي انني لا اريد حتى رؤية وجوهكم). ولكنّ القضية لم تقف عند هذا الحد، حيث اتخذت فاطمة من بعد رحيل ابيها – امتثالاً لوصيّته ـ موقف المدافع عن امامة علي (هارون الامة). وقد كان هذا الموقف ثقيلاً على أبي بكر الذي انتزع الرئاسة بصعوبة وبعد تناحر مع الانصار ومعارضة من قبل عليّ واصحابه، فكان موقف فاطمة (باعتبارها سيّدة نساء اهل الجنّة) المؤيد لامامة وخلافة علي( )، شديد الوطأة على ابي بكر وعمر.
ولا يُستبعد ان يكون سخط ابي بكر وعمر من مخالفة فاطمة بصفتها سيدة نساء اهل الجنّة، لرئاستهما هو السبب وراء الاستيلاء على جميع اموالها وحرمانها من سهم ذوي القربى في خمس خيبر وغيره، وقد أدّى هذا الاجراء وما نجم عنه من حرمانها من ذلك الحق الى ان تعيش فاطمة وعلي والحسنين من اهل بيت النبي (والعترة الهادية وذوي القربى الذين أوجب الله مودّتهم) في غاية الفقر والعسر، وكانت الامور تضيق عليهم يوماً بعد آخر، ودفع فاطمة الى محاكمة ابي بكر في المسجد، حيث حاكمته حول ثلاثة( ) قضايا هي:
1ـ حرمانها من سهم ذي القربى في الخمس، حيث حرمها ابو بكر من سهم ذي القربى في خمس خيبر وغيره خلافاً لصريح القرآن.
2ـ قضية فدك التي نحلها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لفاطمة سيّدة نساء اهل الجنّة، وكانت فدك في عهد رسول الله بيد فاطمة، وكانت تنفق من المال الذي يأتيها من فدك. وقد اعاد بعض الحكام الامويين مثل عمر بن عبد العزيز، وبعض الحكام العباسيين مثل المأمون، فدك الى ذرية فاطمة.
3ـ حول ارث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من اراضي بني النضير التي كان النبي في حياته ينفق من واردها ولكن ابا بكر اخذ من فاطمة كل هذه الاراضي التي كانت ارثاً من رسول الله، واخذ منها فدك التي كانت نحلة من ابيها لها، وحتى انه حرمها من سهمها في خمس ذي القربى.
لم يقدّم ابو بكر اية اجابة حول السبب الذي دعاه الى حرمان فاطمة من سهم خمسها( ) في بيت المال. واجاب فقط عن السؤال الثالث، اراضي بني النضير التي كانت للنبي، فقال ابو بكر: ان النبي لا يورث( ). ولكن فاطمة (التي رأت انه يكذب) ردّت عليه بالقول: أفعلى عمد تركتم كتاب الله اذ يقول:
﴿فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ﴾( ).
واذ يقول:
﴿وَ وَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ﴾( ).
ونقل ابن سعد في الطبقات الكبرى: فقال علي: ورث سليمان داود، وقال زكريا: يرثني ويرث من آل يعقوب( ).
اي ان فاطمة قالت بأن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لا يقول شيئاً يتعارض مع
القرآن. فها هو القرآن يقول بأن الانبياء يرثون، وانك يا ابا بكر بشهادة آيات القرآن تكذب على الرسول حين تقول بان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: نحن الانبياء لا نورث، ورسول الله لم يقل هذا قط.
ولم يرد ابو بكر على كلام علي وفاطمة، ولم يعد لفاطمة اموالها، وحرمها من سهمها من الخمس. وبقيت فاطمة ساخطة على ابي بكر وعمر ولم تكلّمهما الى ان توفيت( ) وكانت تدعو عليهما في صلاتها. وقد كتب اتباع الأئمة الاثني عشر من العترة الهادية، وكذلك نقل بعض اتباع ابي بكر وعمر من امثال الطبري وابن قتيبة الدينوري وغيره ان ابا بكر بعد هذه الحادثة امر بالهجوم على دار علي، واحراق دار علي (هارون الامة) وفاطمة (سيّدة نساء أهل الجنّة من العترة الهادية)، وبعد ان هجم عمر بأمر ابي بكر على دار علي وفاطمة سيدا اهل الجنّة واحرقها( )، وكسروا الباب، اقتادوا علياً مغلول اليدين الى ابي بكر.
البخاري ـ عن عمر بن الخطاب: … انما كانت بيعة ابي بكر فلتة وتمت الا وانها قد كانت كذلك… انه قد كان من خبرنا حين توفي رسول الله صلى الله عليه و سلم ان الانصارخالفونا واجتمعوا بأسرهم في سقيفة بني ساعدة وخالف عنا علي والزبير ومن معهما…( ).
تاريخ الطبري نقلاً عن زياد بن كليب قال:
ذهب عمر بن الخطاب الى دار علي وقال: «والله لأحرقن عليكم او لتخرجن».
جاء في كتاب البدء والتاريخ: ولدت فاطمة محسناً وهو الذي يزعم انها اسقطت من ضربة عمر وفي كتاب الفصول لابن الصباغ ذكر ان في اولاد علي بن أبي طالب محسناً الذي كان ساقطاً.